قاسم عز الدين *ليس غريباً تلهّي الطبقة السياسية العربية بأخبار الأعيان وقياس طول الشراويل وعرض اللحى، فيما يضج العالم بقياس مهوار الأزمات، إنما الغريب تلهّي «النُّخب» وقوى الاعتراض بخبريات سقيمة، إلى حدّ لا يصل اعتراضها أبعد من تسجيل علامات «حسن سلوك» لنفسها، من أزمات الرأسمالية والطبقة السياسية. الغريب أن هذا «الخراب المهول» لا يحثّها على البحث عن حلول في الرؤى والبدائل العملية، بل يزيدها «صلابة» في ترداد موروث من التصورات البدائية، العائدة لقرون خلت، في الرؤى، وفي الخطاب السياسي، وفي آليات العمل والأشكال التنظيمية على السواء.
منطقياً، يُفترض أن تفتح أزمات النظم والطبقة السياسية، الدروب أمام «النُّخب» وقوى الاعتراض، لتغيير ما أفسد الدهر وحتى ما أصلح العطار، إنما يُفترض بداهة، أن تحمل هذه القوى بدائل وحلولاً مرئية للأزمات، أو بأضعف الإيمان، أن تثبت جدّية في البحث عن حلول وبدائل، لا ريب تبدأ بنفسها، بشأن كل ما ركَد في رأسها وترسَّب من خيالات متقادمة عن وظيفتها السياسية و«التثقيفية».
وبخلاف ذلك، من الطبيعي أن تبتلع الأزمات، «النُّخب» وقوى الاعتراض، وأن تقذف خربشتها على قشرة النظم وحواشي الطبقة السياسية، إلى محل لا يجوز ذكره.
والحال، أنّ أزمة النظم العربية أبعد من أزمة الطبقة السياسية، ولا تحُلّ «بنشر الوعي» بين الناس، أو بالاعتراض على الطبقة السياسية بأطروحات ومقولات ذهنية بدائية (إسلامية، عروبية، علمانية، مدنيّة). فالناس ـــ عدا قلّة ـــ لا ترى في هذه الألفبائيات ضوء آخر النفق، فتنكفئ على نفسها استخفافاً بالحكام و«بالنُّخب»، سوى ما يضطرها نكد الدنيا إلى حفظ البقاء.
وفي كل الأحوال، ليست وظيفة الناس حل الأزمات والبحث عن حلول، بل هي وظيفة الطبقة السياسية أو وظيفة النُّخب حين تفسد الطبقة السياسية، وهنا الأزمة وليست في مكان آخر.
سبب الأزمة في جذورها، حالة اللادولة التي وصلت إليها البلدان العربية، إثر إزالة الاستعمار. وهو اليوم وهم إعادة بناء الدولة، بمعزل عن بناء تجمّع إقليمي يحفظ الهوية الوطنية ومجمل الحقوق، إنما يضيف إليها عناصر البناء الداخلي من الفائض المشترك الناتج من تبادل المنفعة في المحيط الإقليمي، ومن تبادل التبعية مع التجمعات الإقليمية الأخرى (من الصين إلى الاتحاد الأوروبي)، وبكلام آخر، من العبث التفكير بحل الأزمات الكبرى، أو إعادة بناء الدولة في رقعة جغرافية بحجم مصر والعراق وسوريا ولبنان... من دون أن تتخلّى كل دولة طوعاً، عن بعض من سيادتها، لمصلحة سيادة إقليمية مشتركة، مغبَّة الانهيار وفقدان السيادة بل الوجود.
وبهذا الصدد، لسنا وحدنا ـــ حمداً لله ـــ فهناك حوالى 150 دولة في العالم نشبهها وتشبهنا بالانهيار والتفتت، إنما هناك حوالى 50 دولة لا نشبهها ولا تشبهنا، بينها تجربتان، الأكثر نجاحاً هي الاتحاد الأوروبي والتجربة الجديدة في أميركا الجنوبية، الأقرب إلينا.
هذه الرؤية ليست مقولة ذهنية، لزيادة الرأسمال الرمزي الاعتراضي، مقابل رساميل الطبقة السياسية، بل هي ورشات عمل يمكن أن تخرج بها «النُّخب» وقوى الاعتراض العربي من خرم الإبرة إلى الفضاء الأرحب، في البحث عن حلول لأزمات الانهيار والتفتُّت وهدر الحقوق الوطنية والاجتماعية والحريات، إنما أيضاً في البحث عن صياغات وأشكال تنظيمية إقليمية وهيئات تنسيق عملية، على مستوى «النُّخب» وقوى الاعتراض، تحفظ استقلالية كل طرف ومجموعة، لكن في حراك سياسي ومبادرات عملية مشتركة. فمن لا فضاء له لا أرض له.
أزمة النظم العربية أبعد من أزمة الطبقة السياسية، في تبعيتها لنموذج عالمي سائد في أحوال العمران وسبل المعاش، هو نموذج النمو (Croissance) القائم على إنتاج الأزمات الصغرى والكبرى، في البلدان الصناعية المفرطة في الإنتاج وتبديد الثروات الطبيعية (دون حساب للديون البيئية في كلفة الإنتاج)، وفي البلدان الملحقَة المفرطة باستهلاك بذيء لا تنتج مقابله، بل تهب ثرواتها العامة الخام. أدّى هذا النموذج، منذ «الانفتاح» في أواسط السبعينيات إلى «استقلال» كل بلد عربي في تبعيته، للدول الصناعية، عن المحيط الإقليمي، وإلى انهيار الأرياف في «زيادة الإنتاجية» المعدّة لتصدير الفاكهة والخضار الطازجة، (بناءً على وصفة صندوق النقد والبنك الدولي)، وإلى توسّع «طبقة مدنيّة حديثة» هلامية الشكل والمضمون، نمت في سراديب الريع والسمسرة وتجارة الخردة، حول السلطة السياسية، وامتداداً لتوسع زحف المال والأعمال من البلدان الصناعية.
وقد جاءت القفزة النيوليبرالية في بداية الثمانينيات، تعزّز البؤس والانهيار وشرعنة هدر الحقوق الوطنية والاجتماعية ومهّدت لتكريس احتلال فلسطين والعراق وعودة الاستعمار ثم تهديد كل الدول بالشرذمة والتفتت.
كفلت «استراتيجية السلام» والاتفاقيات، احتلال الفراغ السياسي العربي كما كفلته اتفاقيات الشراكة الحرة والشراكة الأورو ـــ متوسطية. وبالمقابل، صعدت قوّة تركيا وإيران في الحقل الإقليمي استناداً إلى قدرتهما في التبادل، فجذبهما الفراغ العربي بدوره للعمل على توسيع نفوذهما بشكل أو بآخر؛ فتركيا تحاول الدخول من الباب الإسرائيلي ـــ الأميركي وهو موصد أمام إيران، ما يدفعها إلى اقتحامه، لكنها لا تأخذ في الحسبان كلفة هذا الاقتحام تفكيكاً (العراق) وتفتيتاً في الجسم العربي (الانقسامات العرقية والمذهبية) بسبب ضعف طموحاتها في تغيير نموذج النمو والوصول إلى تبادل التبعية مع الدول الصناعية، وهذا الأمر يحدّ من أفقها في العمل على بناء الحقل الإقليمي وتبادل المنفعة بين دوله.
غير أن شدّة الفراغ العربي، الذي يحتله المثلث (الأميركي ـــ الإسرائيلي ـــ الأوروبي)، لا يساعدها على البناء المشترك، إذا أرادت أو اضطرت، فالبناء يتطلب ساعديْن على الأقل.
إن قوى الاعتراض العربي يمكنها احتلال جزء من هذا الفراغ، بالعمل على تفكيك نموذج النمو علّة الخراب وسبب البلاوي. وذلك ليس مجاله المهرجانات وترويج المقولات الذهنية البدائية، إنما مجاله بلورة الرؤى والبدائل في الحقل الإقليمي، والتشمير عن السواعد لبناء آليات عمل مع القوى الأكثر تضرراً من هذا النموذج في الأرياف وهوامش المدن: الأمن الغذائي، إعادة التأهيل، إعادة الاعتبار للأرض والبيئة والمياه والإنتاج الحرفي والعائلي، تغيير الزراعات الكيماوية المعدّة للتصدير، خلق فرص عمل حقيقية والتصنيع الزراعي والصناعة الصيدلية الطبيعية (تنتج هولندا من تصنيع الحليب ما يعادل إنتاج النفط العربي، وتنتج إيطاليا من تصنيع الحبق ما يعادل ميزانية لبنان. فالثروة هي فائض القيمة الصناعية وليس الريع ثروة حتى لو كان نفطاً). ثم العمل على إعادة تنظيم المحليات والبلديات في مواكبة تفكيك نموذج النمو، فاللادولة الخراب، جذورها في خراب المحليات والبلديات.
هي ورشات عمل لا تستطيع موازنة خراب الطبقة السياسية، بطبيعة الحال، لكنها تخلق معارضة تستند إلى قوى اجتماعية ممتدة في الحقل الإقليمي، تتصل (أو تبدأ) بالامتدادات العالمية مع حركات المناهضة والعولمة البديلة، لتعديل اتفاقيات هدر الحقوق الوطنية والاجتماعية والسياسية واتفاقيات «الشراكة» والتجارة الحرّة، وإرساء قواعد التضامن المشترك والتوأمة ونصرة الحقوق والتأهيل والتسويق.
أمام هذه الرؤية، هناك عائق وحيد هو تعريف «النُّخب» وقوى الاعتراض العربي لنفسها ووظيفتها: أهي النخب التي تبني حلولاً وبدائل عملية في صناعة حياة مجتمعاتها، أم هي التي تبشّر وتكتب، على غرار معظم رجال الدين، وعظاً كئيباً، هو إلى البكاء على الأطلال أقرب؟ فكل أمر يرتسم في الرأس أولاً، على صورة غير صورته في الطبيعة. والتاريخ لا يموت، فحتى الحديد سطا عليه المبرد، لكن عندما تتعفّن التصورات الذهنية في مستنقع آسن، من الحكمة رميها بحجر.
* كاتب لبناني