بيار أبي صعب ناقداً «بدي شــوف»: كليشيهات صحيحة / كليشـيهات خاطئة
بشّار حيدر *
قرأت مقالة بيار أبي صعب عن فيلم «بدي شوف»، من إخراج خليل جريج وجوانا حاجي ـــ توما وبطولة كاترين دونوف وربيع مروة («الأخبار» ـــ ٣٠/ ١٠/ ٢٠٠٨). واضح أن الفيلم لم يُعجب أبي صعب، فيما أجد نفسي متفقاً معه إلى حدّ كبير في تقييمه الفنّي. لكن، مع ذلك، استوقفتني نقطة أثارها الناقد في سياق تبيانه سقطات «بدّي شوف». فممّا يأخذه أبي صعب على الفيلم أنّ «كلّ شيء مدبَّر لخدمة الكليشيهات المهينة. في الضاحية يضرب الأشرار (نسبة إلى محور الشر) الكاميرا مرتين ولا يسمحون بالتصوير. أما الأخيار أي الجيش الإسرائيلي، فيمنحون ذلك الإذن بلا عناء».
لقد جعلني تعليق بيار أبي صعب هذا أتساءل: ماذا لو قدم الفيلم عناصر حزب الله على أنهم متساهلون مع التصوير وأن الجيش الإسرائيلي كان على عكس ذلك. هل كان هذا سيخرج الفيلم من كليشيهيّته، أم كان سيدخله في عالم البروباغندا الحزب اللهية. ثمّ، وهذا ما يهمّني هنا، هل صورة الجيش الإسرائيلي المتساهل، التي يقول أبي صعب إنّ الفيلم يروّج لها، هي في خانة الكليشيهات؟ بالتأكيد هي ليست كليشيهاً في لبنان والدول العربية ولا في أنطاكية وسائر المشرق... أهم من ذلك أنّ صورة الجيش الإسرائيلي المتساهل هي أيضاً ليست كليشيهاً عند الأوروبيين الذين تعتقد غالبيتهم (بحسب الكثير من استطلاعات الرأي) أن الدولة والجيش الإسرائيلي مارسا ويمارسان قمعاً يومياً ضدّ المدنيين في الضفة والقطاع. فإذا كان بيار أبي صعب يعتقد أن الصورة السائدة لدى غالبية الأوروبيين هي أن الجيش الإسرائيلي جيش مسالم يحرص على تسهيل أمور المدنيين، فهو مخطئ.
إنّ سمعة هذا الجيش ليست على ما يرام في أقل تقدير. فمتى، أودّ أن أسأل، كانت آخر مرة شاهد فيها أبي صعب أو أي منّا فيلماً وثائقياً أو روائياً يروّج لطيبة قلب الجيش الإسرائيلي؟ متى كانت آخر مرة قرأ فيها أحدنا مقالاً في صحيفة أوروبية أساسية يشيد مباشرة أو غير مباشر بتساهل الجيش الإسرائيلي ولينه؟
أنا لا أشكك على الإطلاق بأن الجيش الإسرائيلي يستحق السمعة السيئة التي اكتسبها في أوروبا والعالم. لكن ما يهمني هنا أن تصوير الجيش الإسرائيلي على أنه متساهل لا يندرج في خانة الكليشيهات. إذا كان هناك من كليشيه في ما يتعلق بالجيش الإسرائيلي، فهو أنه جيش قاسٍ لا يتوانى عن إلحاق الأذية بالمدنيين والتضييق عليهم.
طبعاً كون هذه الصورة السيئة للجيش الإسرائيلي كليشيهاً لا يمنع كونها صورة صحيحة في العموم. فليس كل كليشيه خاطئاً بالضرورة. لكن لماذا يصرّ أبي صعب وكثيرون إذاً على أن الكليشيه السائد هو أن الجيش الإسرائيلي جيش متساهل يتمنّى كل جار جيرته. قد يكون أحد الأسباب أن أبي صعب وآخرين كثراً غارقون في كليشيه من نوع آخر: كليشيه غير صحيح هذه المرة، هو أنّ الإسرائيليين، أو اليهود بتعبير أدق في هذه الحالة، يسيطرون على الإعلام الغربي الذي يصوّرهم دائماً على أنهم جماعة غير عدائية محبة للسلام. يبدو أن الناقد واقع تحت تأثير كليشيهات شائعة في هذه البقعة من العالم، فيما يصوّر نفسه أنه داعية لتحدي السائد وكسر طوقه.
السبب الآخر الذي قد يفسر اعتقاد أبي صعب، بخلاف الشواهد، أن الكليشيه السائد هو أن الجيش الإسرائيلي سموح ومتساهل هو إصراره، ومعه كثيرون، على لعب دور الضحية المطلقة، ليس فقط للحروب والمؤامرات السياسية، ولكن أيضاً للإعلام والثقافة السائدة. والمدهش ليس فقط الإصرار على لعب دور الضحية المطلقة بخلاف الواقع، بل المدهش هو إصرار بعضهم على لعب هذا الدور في الوقت نفسه الذي يجري التباهي بالانتصارات التاريخية في خضم التحضير لـ«زوال دولة إسرائيل». هؤلاء البعض يريدون الاستمتاع في آن واحد بكل امتيازات الضحية، وكل ما يجلبه ذلك من تعاطف ذاتي وخارجي، والاستمتاع أيضاً بالانتصارات التاريخية، وكل ما يجلبه ذلك من مشاعر السيطرة والتفوق. إنهم يريدون الجمع بين عقيدة المقاومة التي لا تقهر وعقيدة الشعوب المقهورة. يريدون بحسب القول الإنكليزي أن يأكلوا كعكتهم وأن يحتفظوا بها في الوقت نفسه.
ربما أجد نفسي متفقاً مع بيار أبي صعب في تقويمه لـ«بدّي شوف» من الناحية الفنية. لكني لست متفقاً معه لا في تصنيفه للكليشيهات ولا لما يدفعه إلى تبنّي هذا التصنيف.
* أستاذ جامعي


بيار أبي صعب يرد عن طيبة القلب والـ«ليبراليّة شيك» و... أنف كليوبتراالطريقة التي يجري فيها الاعتداء على الكاميرا في الجزء الأوّل من الفيلم، لا يمكن أن يقبلها المنطق، عدا أن معلوماتنا المستقاة من مصادر متقاطعة، تؤكّد أن كل الترتيبات والإجراءات اتخذت في الضاحية لتسهيل عمل جريج / حاجي ـــ توما وممثليهما دونوف/ مروّة، وأن فريق الفيلم لم يواجه هناك أي تضييق. فلماذا صوّر هذا المشهد الملفّق التزوير خياراً جماليّاً؟
ربّما كانت تلك هي الصورة التي يملكها الثنائي، في نهاية الأمر، عن «أشرار الضاحية». كان عليه والحالة هذه أن يقول موقفه، كما يفعل آخرون، بشجاعة ووضوح، أي بشكل أقل التباساً وتسوويّة وحياديّة كاذبة، ومن دون استغلال صورة كاترين دونوف، ولا الاختباء خلف خطاب «جامع» وباهت، على قاعدة «نحن لسنا مع أحد!». وكان عليه أن يفعل ذلك، وهذا الأهمّ، في قالب سينمائي متماسك ومقنع وخلاق... لكن ماذا لو تماهت خيارات الفيلم، أيضاً، مع اسراتيجيّته التسويقيّة في فضاءات وشبكات صنع من أجلها غالباً؟ ما قد يفسّر لجوء المؤلفَيْن إلى إعادة إنتاج الكليشيهات «اللائقة سياسيّاً»، كما يفرضها الخطاب المهيمن الذي سمّى بوضوح الأشرار والأخيار، ورسم بكل ثقة الحدود الفاصلة بينهما؟ وحين نتحدّث عن كليشيهات في معرض مناقشة «بدي شوف»، فإننا ننطلق طبعاً من الحيّز الجغرافي ـــ الأيديولوجي الذي غرف منه الفيلم موارده، والذي يبحث فيه عن شرعيّته وانتشاره. وربّما لم تكن تلك الفكرة المضمرة في مقالتنا، واضحة بما فيه الكفاية، ما استدرج مساجلنا إلى الاسترسال في مناقشة «الكليشيهات» على أنواعها، بدءاً بصورة حزب الله وإسرائيل في المرآة العربيّة.
أما أن تكون صورة الجيش الإسرائيلي «ليست على ما يرام» في الإعلام الغربي... فالله يبشّرنا بالخير! متى شاهدنا آخر مرّة ـــ يسألنا الأستاذ بشّار ـــ فيلماً يدافع عن «طيبة قلب» الجيش الإسرائيلي؟ السؤال مطروحاً بهذا الشكل ينمّ عن طيبة قلب مقلقة. حمانا الله من طيبة القلب، يا أصدقاء! ألا يكفي ما نشاهده يومياً من عمل منهجي تقوم به الآلة الإعلاميّة الضخمة من «أبلسة» المقاومة التي دحرت ذاك الجيش لأوّل مرّة منذ النكبة؟ ربّما فات الدكتور بشّار أن انتفاض الضحيّة على جلادها، لا تغيّر من موقع الضحيّة وموقع الجلاد. فهل يقع، من حيث لا يقصد، في مطبّ الـ«ليبراليّة شيك» التي تساوي بينهما (راجع الكلام عن «الضحيّة المطلقة»)؟
إن هزيمة تمّوز التي لم تلطّف قيد أنملة من الغطرسة السبارطيّة للدولة الصهيونيّة، ولا من التواطؤ السافر لمعظم الديموقراطيّات الغربيّة معها، لا يمكن إدخالها فجأة في الحساب كأحد الأسباب التخفيفيّة لهمجيّة الجيش الغاصب. لكن، كما توقّعنا منذ البداية، ها قد ابتعدنا كثيراً عن الفيلم والمقالة التي تتناوله...
أما أن يحاسبنا الأكاديمي اللبناني على أساس الـ«لو» (لو قدّم الفيلم صورة إيجابيّة عن حزب الله هل كنّا ضربنا صفحاً عن «كليشيهيّته»؟ حلوة «كليشيهيّته»!)، فلعبة شائكة لا نملك دخولها، تذكّرنا بحكاية الفيلسوف باسكال مع أنف كليوبترا. كل ما يسعنا هنا، هو طمأنة بشّار حيدر إلى أننا نفضّل عملاً فنيّاً ناضجاً ومتقناً يقدّمه «خصم»، على عمل ضعيف وبليد يقدّمه «صديق».
هذا على الأقلّ ما نصبو إليه، ولعلّ التنوّع والانفتاح اللذين نحرص عليهما في «الأخبار»، في صفحات «ثقافة وناس» على سبيل المثال لا الحصر، من شأنهما أن يقدّما للقرّاء، بين حين وآخر، دليلاً على أن ما نؤكّده هنا أكثر من مجرّد ادعاء!