سعد الله مزرعاني *يمثّل العماد ميشال عون محور السجال السياسي الدائر في البلاد، على الأقل، منذ توقيع ورقة «التفاهم» بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» قبل أكثر من سنتين. ويستطيع المتتبّع أن يلاحظ بسهولة كبيرة، كيف أن ما يقوله العماد ميشال عون، وما يتخذه من مواقف، وحتى أيضاً ما لا يقوله أو لا يفعله، هو المادة الأساسية لردود فريق الأكثرية وتعليقاتهم وانفعالاتهم، وخصوصاً منه الفريق «المسيحي» في هذه الأكثرية، وبالأخص أيضاً، من بين هؤلاء، مجموعة «القوات اللبنانية» و«لجنة المتابعة لـ 14 آذار»...
يحدث ذلك، عادةً وتكراراً، بطريقة شديدة الاتهامية والعدائية. يُصوَّر العماد ميشال عون من جانب الفريق المسيحي لقوى الأغلبية، على أنه تخلى عن «مسيحيته»، وأنه خان شعاراته. يُصوَّر أنه يسير عكس التيار «الطبيعي» لـ«بيئته» التي هي بيئة، بالغريزة وبالمصلحة، حليفة للولايات المتحدة الأميركية. فكيف وقد أصبحت هذه الأخيرة حاضرة مباشرة، في المنطقة بقوتها العسكرية الهائلة وبمشروعها الشامل لمجمل الشرق الأوسط، وأنها قد حطت رحالها في لبنان حامية ضامنة وصيّة، لا يكاد مسؤول فيها يغيب حتى يحضر الآخر، ولا تكاد تودع مسؤولاً من الأكثرية النيابية، حتى تستقبل آخر...
الواقع أن هؤلاء يتصرفون على قاعدة أن الجنزال عون قد ارتكب ما لم يرتكبه سواه، وعلى أسوأ صورة وفي أدق مرحلة، وأنه قد فاجأهم من حيث لا يتوقعون، «فصادر» جزءاً كبيراً من المناخ والموقف والموقع «المسيحي»، ثم ضلّله وأخرجه من معادلة «السيادة والحرية والاستقلال»، ووضعه في مكان آخر مضاد تماماً...
وتلك «جريمة» يواصلها العماد، في نظرهم، كل يوم. وآخر «ارتكاباته»، كان في ما قدمه من مشروع «الاستراتيجية الدفاعية» إلى اجتماع «لجنة الحوار» في جلستها الأخيرة التي عقدت في الخامس من الشهر الجاري في القصر الجمهوري. لقد سارع بعض هؤلاء إلى تسريب الورقة إلى وسائل الإعلام، ثم شنّوا عليها حملة عنيفة على طريقة من اعتبر خصمه قدّم إليه فرصة ثمينة من خلال «خطأ» ارتكبه، وهو لن يفوّت فرصة الاستفادة منه إلى الحد الأقصى.
كان رئيس الجمهورية قد طلب إلى العماد عون تقديم اقتراح أو خطة بشأن الاستراتيجية الدفاعية موضوع الحوار. وقد فعل العماد عون ذلك وتقدم بمشروع لم يُتح له النقاش في جلسة الحوار. لكن، خلافاً للاتفاق بشأن سرية المداولات، جرى تسريب المشروع، ومن ثم شُنَّت حملة شعواء على المشروع وصاحبه، على نحو غير مسبوق إلّا في تعامل الأكثرية مع العماد عون نفسه!
«بلّ» يده في ذلك أكثر من قطب ووزير... ومن أبرزهم كان «التائب» الأخير «دولة الرئيس» ميشال المر، الاحتياطي في الجعبة الأميركية، الذي كانت قد ضاقت به السبل لكثرة «كراماته» في الحقبة السورية، حتى انتشله العماد عون، وعاد به مجدداً إلى المجلس النيابي!
خلاصة ما أدلى به هؤلاء، أن تجهيز الجيش يحتاج إلى أموال طائلة (بالمليارات) وهي غير موجودة (لم يجر التركيز بالطريقة نفسها على منع التسليح على الجيش من جانب واشنطن حامية إسرائيل وحليفتها). أما المأخذ الآخر، ففي السخرية أيضاً والادعاء أن الخطة تعمّم الميليشيات والتسلّح على جميع الأراضي والمجموعات اللبنانية.
وتكون خلاصة الخلاصة، وفق ما يستنتج بوضوح كامل: الجيش لا يستطيع الدفاع لأنه لا يمتلك السلاح (السلاح يتطلب مالاً لا يمتلكه فؤاد السنيورة)، والمقاومة غير مقبول أن تمتلك قرار الحرب والسلم (الدفاع)... فالحل في «خروج» لبنان من الصراع نهائياً، حيث تنعدم الحاجة إلى المقاومة أساساً. يخفي ذلك طبعاً، من دون نجاح كبير، النظر إلى الأراضي اللبنانية التي ما زالت محتلة، باعتبار ذلك أمراً مضخّماً ومفتعلاً. هذا فضلاً عن اعتبار أن المشكلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، هي مع سوريا التي لا ترسّم الحدود، لا مع إسرائيل التي تحتلها!
ولا يخفي ذلك بالمقابل، وبوضوح متزايد، انتماء قوى عديدة في فريق الأكثرية، إلى محور «الاعتدال العربي» الذي تمثّل إسرائيل وفق التخطيط الأميركي، شريكاً أساسياً فيه، فيما تمثّل إيران وسوريا العدو الجديد، الذي يجب أن تصاغ ضده لا معه الخطط الاستراتيجية الدفاعية!
«جريمة» العماد عون في نظر هؤلاء مزدوجة: القول إنّ إسرائيل عدو، ووضع خطة لمواجهة هذا العدو إذا استهدف لبنان، خطة تكون المقاومة جزءاً أساسياً فيها، بالتعاون مع الجيش اللبناني، بعد تجهيزه، وخصوصاً، بشبكة دفاع جوي حديث، وبالأسلحة الدفاعية الثقيلة الأخرى.
لخّص العماد عون كل ذلك بقوله في مشروعه: «إن الفرضية الطبيعية التي اتخذها قاعدة لطرح الترجمة العسكرية للاستراتيجية الدفاعية، هي أن لبنان قد اختار مواجهة الأخطار التي تتربص به». هنا المشكلة بالنسبة إلى متطرفي الأكثرية: المواجهة لا الركون للوعود الأميركية. وامتلاك أسباب القوة، لا الاعتماد مجدداً على أن «قوة لبنان في ضعفه وفي صداقاته». والتعامل مع العدو الصهيوني، علناً، بوصفه محتلاً، والدعوة إلى مواجهته ومقاومة عدوانه، لا افتعال عدوّ آخر سواه. والتعامل مع داعميه وحماته (ضمناً واشنطن) بوصفهم شركاء في العدوان، لا أصدقاء ولا حماة ولا حراس سيادة وحرية واستقلال (أشار المشروع إلى أن «المجتمع الدولي يساعد إسرائيل على تجزئة تنفيذ القرارات، والإصرار على تنفيذ ما هو حديث ومريح لإسرائيل وتجاهل ما هو قديم ولمصلحة الفلسطينيين»، وللبنانيين). هنا، إذاً، تكمن «جريمة» العماد عون. ومن هذا المنطلق يجب تجديد حملة التشكيك، ليس فقط في «مسيحيّته»، بل أيضاً في لبنانيّته، وخصوصاً أنه «يكحّل» كل ذلك بزيارة سوريا في وقت قريب!
كان يجري التصويب على العماد عون من زاوية اتهامه بأنه يستسهل ويسخّر كل شيء من أجل الوصول إلى كرسي رئاسة الجمهورية. الآن، وبعد انتخاب الرئيس ميشال سليمان، لم تعد هذه التهمة ذات معنى. ولذلك يجري التعرض لعون من زاوية سياسية مباشرة، لا من زاوية شخصية. وفي ذلك، في الواقع، تأكيد بأن الرجل صاحب خيارات قد تتفق معه عليها أو لا تتفق، وليس صاحب مطامح ومطالب فحسب!
ومن ذلك، أي من هذه الزاوية، يمكن نقل النقاش إلى مستوى آخر: إذا كانت المبادئ العامة في هذه الاستراتيجية صحيحة، فإن ثمة أسئلة مهمة، تطرح في مجرى التنفيذ، وعلى صعيد الوسائل، وخصوصاً، في ما يتعلق ببند أساسي، هو بند «الوحدة الوطنية». يقول المشروع: «الوحدة الوطنية ضرورة مطلقة في الاستراتيجية الدفاعية، وفقدانها يستدرج السلاح إلى داخل البلاد... للاقتتال». هذا صحيح تماماً، فكيف يمكن أن يعالج بغير خطة للإصلاح، على قاعدة المساواة بين المواطنين، وبعد التخلص، وفق الدستور نفسه، من التوزيع الطائفي والمذهبي، الذي يجب إحالة الهواجس بشأنه على «مجلس الشيوخ» وفق نص الدستور (المادة 22)...
لا نريد إسقاط أهمية الحوار وضرورته. لكن لا بد من ملاحظة أن نسبة القوى والاتفاقات والتسويات التي حصلت، وآخرها تسوية «الدوحة»، تتيح المجال، أمام أطراف المعارضة، للانصراف إلى نوع جديد من المهمات. وفي أساس ذلك السعي بالفعل، إلى تحصين الوضع الداخلي اللبناني. ولن يجري هذا التحصين، إلا عبر التوجه مباشرة، إلى معالجة الخلل في النظام السياسي اللبناني، عنينا به الخلل القائم في اعتماد هذا النظام على الانتماء الديني والمذهبي أساساً للتميز بين المواطنين، ومرتكزاً لممارسة وتوزيع السلطة والنفوذ والمسؤوليات في السياسة والإدارة والأمن والعلاقات، فيما بينهم، وبينهم وبين الآخرين.
تبقى كلمة أخيرة في إنصاف العماد عون: أنه يتمسك بالأساسي، فيما يضيع كثيرون وبينهم يساريون تاريخيون، في مجرى صراع سمته الأساسية مواجهة مشاريع السيطرة والعدوان والاحتلال والاغتصاب. ونقصد بذلك هنا، تحديداً، أولئك الذين يرون، مثلاً أن الأولوية المطلقة يحددها الموقف من قانون الانتخاب (على أهمية ذلك)، لا الموقف من الصدام أو الانسجام مع مشاريع الهيمنة والعدوان والاحتلال!!
* كاتب وسياسي لبناني