تشخص ضواحي بيروت الإداريّة بحسد إلى العاصمة المستغرقة في مركزيتها. ففي الوقت الذي تنعم فيه بيروت بتيّار كهربائي أقرب إلى الانتظام على مدار اليوم، تعاني الضواحي، وخصوصاً الجنوبية، أزمتين. الأولى استمرار تقنين التيار «الرسمي»، والثانية ارتفاع أسعار اشتراكات المولّدات الكهربائيّة الخاصة، الذي لا يختصر كل مشاكلها من فوضى وغياب الرقابة عليها
راجانا حمية
تسرع علياء قبيسي نحو باب المدخل بقدميها الحافيتين، تتسمّر أمام منظاره متفحّصة ملامح الرجل الغاضب الذي يكاد يقتلع الباب بضربات يده. تنظر، وهي تحاول التقاط أنفاسها من الهرولة، ثمّ ترجع خطوتين إلى الوراء، مسندة رأسها إلى الجدار في انتظار يأس الرجل المصرّ على أن تفتح له. هي المرّة الرابعة، خلال هذا الشهر، التي تضطرّ فيها علياء إلى الاختباء من الرجل، وهو جارها، الذي أصبح مصدر رعب لها ولجيرانها في منطقة الكفاءات في الضاحية، منذ تولّيه وظيفة جابي أموال اشتراكات المولّدات الكهربائيّة. كان يمكن هذا الرجل أن يبقى «الجار اللطيف والطيّوب» في أوّل الشهر وفي آخره أيضاً، كما تقول علياء، إلا أنّ عمله الجديد كجابي أموال «غير مقدور على دفعها»، حوّله إلى شخص من الأفضل تجنّبه.
والعلاقة متوتّرة بين المشتركين وأصحاب المولّدات، المصرّين على إبقاء تسعيرة الاشتراك،على حالها، رغم «الانخفاضين»: أسعار المحروقات، وساعات التقنين في التيّار الكهربائي.
ظنّ بعض المشتركين أنّ الأزمة انتهت بمجرد وصول سعر صفيحة المازوت إلى ما يقارب عشرين ألفاً، هابطة من علياء «الثلاثين ألفاً» التي وصلت إليها، لكن يبدو، إلى الآن، أنّ غالبيّة أصحاب المولّدات الكهربائيّة، باستثناء قلّة منهم، لم يقتنعوا بأنّ أسعار المحروقات انخفضت فعلاً. أما من خفضوا الأسعار، فلم يخفضوها بطريقة ترضي المشتركين، بل ما زالت مرتفعة جداً مقارنةً بما كانت عليه الأمور قبل الأزمة العالمية. هذا ما تقوله سميرة المصري، المرأة التي أنهكها اقتطاع 75 ألف ليرة من راتبها الشهري بدل اشتراك في مولّد خاص في حيّ السلّم. تكاد المرأة تموت من غيظها، وهي تقارن بين «تسعيرة ما قبل الأزمة وتسعيرة اليوم»، بعدما «نطّت»40 ألفاً في خلال أسابيع. غير أنّ حال سميرة مع اشتراك المولّدات، قد تكون أخفّ وطأة من حال فدوى السيّد في تحويطة الغدير، الحي المجاور لحيّ السلّم.
هنا، في التحويطة، تختلف الحال، ولكن نحو الأسوأ. فقد عمد صاحب أحد المولدات إلى شراء مولدين كانا موجودين في الحيّ، و«نصّب نفسه ريّساً على المحطّة الجديدة»، وبالطبع سكّان الحي. «اضطر الكلّ إلى الاشتراك في هذه المحطّة، تقول فدوى، لأنّها شبه الوحيدة هنا، وفرض الريّس السعر الذي يناسبه، الذي يصل في بعض الأحيان إلى 100 دولار أميركي، وهو سعر المشتركين «الكلاس»، الذين تكون اشتراكاتهم في العادة في محطّة منفصلة، وبدوام إكسترا 24 ساعة على 24». أما غير «الكلاس»، فتختلف تسعيرة اشتراكهم: ما بين 80 ألف ليرة و120 ألف ليرة، بحسب قوة الأمبيرات، على «أنّها لا تنخفض عن 80 ألفاً»، كما تؤكّد فدوى. تدفع فدوى «متل الشاطرة، لأنّي غير قادرة على مدّ خطّ اشتراك من خارج الحيّ».
هنا في الكفاءات، لا شيء يختلف عمّا يحدث في الأحياء الأخرى. يعاني سكّان هذا الحي «تقنينين»، التقنين الرسمي، وتقنين المولّدات الكهربائيّة.
وبعيداً عن التقنين الرسمي، المفروغ منه، يعمد بعض أصحاب المولّدات إلى اقتطاع ما بين الربع ساعة والساعة من التغذية مثلاً عند بدء تشغيل التيّار والنسبة نفسها قبل انتهاء دوام التشغيل، مع أن أحداً لا يقتطع من اشتراكاتهم. ويبرّر علي عبد الله، صاحب أحد المولدات في الحي هذا الأمر بقوله «خفضنا التسعيرة إلى ما دون 50 دولاراً، والمازوت لم يصل إلى الحدّ الذي نستطيع معه العودة إلى التسعيرة القديمة. فعندما كنّا نأخذ 30 ألفاً من المشتركين، كان سعر المازوت 17 ألفاً، وينك وين بعد؟».
لكن محمّد عبد الله، أحد المشتركين، لا يريد حتى العودة إلى الثلاثين ألفاً، فكلّ ما يطلبه أن «يأخذ الريس على قدر ما يعطينا من التيّار الكهربائي». في هذا الإطار، لا يبدو أنّ الجميع من رأي محمّد، إذ عمد بعض السكّان إلى شراء «يو بي أس» للتزوّد بالكهرباء خلال فترة انقطاع «الكهرباء العاديّة». هذا ما فعله سيّد إبراهيم، وما سيفعله الكثيرون. صحيح أنّ إبراهيم دفع «500 دولار أميركي لشراء هذا الجهاز»، إلا أنّه موقن «أنّها مرّة واحدة فقط، ولن اضطرّ في كلّ شهر إلى دفع 80 ألف ليرة مقابل الاشتراك في موتور الحي». أمّا آمنة شمص، فقد استعاضت عن كهرباء المولّد بـ«موتور صغير، لا نضطرّ معه سوى إلى صرف 30 ألف ليرة في الشهر».
على بعد بضعة شوارع من الكفاءات، وتحديداً في الشيّاح، تكتسب أزمة المولّدات الكهربائيّة بعداً آخر. فهنا، «الموتورات» محسوبة على «واحد أحد»، وكل من ليس له علاقة بهذا الطرف، لا يستطيع فتح تجارة اشتراكات في مولد خاص. أمّا «الأتباع»، فجلّ ما يستطيعونه هو استئجار المولد من «الشخص المحسوب على فلان الفلاني»، كما يلفت أحد العاملين في تشغيل أحد المولدات في الشيّاح، وليكن اسمه «السيّد» كما يفضّل، خوفاً من طرده من عمله. هذا «السيّد» لا يقبض راتباً، إلا أنّ صاحب المحطّة يدفع له أجراً عينياً عبارة عن «تغذية المحلّ والبيت بالتيار ببلاش».
يبدو «السيّد» راضياً عن الأتعاب التي تأتيه من «النطرة»، لكن لا يبدو أنّ المشتركين راضون عمّا يحدث. فدينا أبو حيدر تجد نفسها يوماً بعد يوم مضطرّة إلى قطع «خط الاشتراك، بعدما فاقت تسعيرته المعقول، وبعدما صارت كلها واسطة». هذه الواسطة، التي قد تعيد دينا في يوم ما إلى «إيّام الشمعة»، كما تقول، تختلف في نظر كامل إبراهيم، وهو مشترك آخر. فهو يستطيع دفع ما يريده من تلك التسعيرة التي تتخطّى في بعض الأحيان 120 ألف ليرة، لسببٍ بسيط أنّه من «الشباب»، أي من شباب الحزب الذي ينتمي إليه صاحب المحطّة.
ومن ليس من «الشباب»، قد يكون عليه انتظار قرار أصحاب المولّدات أو البلديّة أو وزارة الطاقة بخفض تعرفة الاشتراك.. وبانتظار ذلك؟ ربّما كان على علياء المثابرة، وعدم فتح الباب.


من يحدّد التسعيرة؟

لم يحذُ اتحاد بلديات الضاحية حذو بلديتي صيدا وصور اللتين تحرّكتا لضبط أسعار الاشتراك في المولدات. ويلفت رئيس الاتحاد محمّد سعيد الخنسا إلى أن الأسعار تخضع للعرض والطلب «ولسنا مسؤولين عنها». ورأى الخنسا أن التباحث في الأمر «ملهاة لا تحتاج إلى كل هذا الكلام». معتبراً أن «المعركة الحقيقية هي تنظيم التيّار الكهربائي الرسمي»