نوال العلي
كانت الأهزوجة تتردّد في الأعراس والأعياد الوطنية «يا حسين إلنا وحقك علينا»، وفيها تظهر سذاجة البداوة وفهمها المتواضع والمحبّ للوطن. المفاجأة كانت أنّ الطيّبين يمكنهم أن يغيّروا الأسماء في الأهزوجة نفسها؛ فيغضبون ويصير غناؤهم هتافاً جارحاً، وتنقلب الأغنية على بوابة محكمة أمن الدولة التي تحول بينهم وبين سياسيّ محبوب محكوم بالإعدام «يا ليث إلنا وحقك علينا».
من هو ليث؟ يسمّي نفسه «كذبة، يشعر مع الناس كما يشعرون مع سندريلا وهي ليست إلا كذبة». وربما يكون كذلك، لكن عذراً من الصادقين، ثمة أكاذيب نحتاج إليها ونودّ لو نكذّبها بلا توقّف. فمن هو الرجل حقاً؟ حتى بلوغه الأربعين، لم يكن ليث شبيلات قد تدخل في شؤون السياسة، الملك حسين الراحل هو من جلبه إليها، باختياره كأحد أعضاء «المجلس الوطني الاستشاري». شبيلات أول إسلامي يشغل موقع نقيب المهندسين آنئذ. لم يُستشر أعضاء المجلس الاستشاري في أمر تعيينهم، سمع شبيلات اسمه في الإذاعة كأي مواطن آخر، وكان الرفض بديهياً لمن هو في مثل موقعه، لولا نصائح بعض المقرّبين الذين تخوّفوا من اعتبار رفضه صفعة للملك، أو اعتبروا أن هذا المنصب قد يقدم فرصة لشبيلات كي يحدث في أدائه تغييراً.
وهكذا كان. فشخصية الرجل لم تكن لتنسجم مع القطيع، قراءة الدستور ودراسته كاملاًَ أول خطوة اتخذها قبل أن تطأ قدماه المجلس. الدستور الأردني «نيابي ملكي»، وإن كان ما يحدث على أرض الواقع التي نزل عليها شبيلات كأنّه هابط بمظلّة مسألة أخرى. إلا أن تغريده خارج السرب أمرٌ لم يكن في الحسبان. ففي مجلس النواب 1984 انتخب ليث بسوء تدبير المجلس، وحسن حظ المساكين، رئيساً للجنة المالية، فما كان منه إلا أن قلب الهزل إلى جد؛ وفتح تحقيقاً واسعاً مع وزير المال، ليكتشف أنّ المديونية التي أعلنت قيمتها بملياري دولار هي في الحقيقة ستة مليارات.
نحن في 1989. شهد ذلك العام ما عرف بـ«هبّة نيسان»، شرارة أطلقها أبناء مدينة معان ضد الفقر والفساد والغلاء والأحكام العرفية. تظاهرات عنيفة جعلت النظام المحنّك يفكر بطريقة يعيد فيها إمساك خيوط اللعبة التي بدا له حينها كأنها تفلت من عقالها. كان شبيلات في ذلك الوقت رئيساً لمجلس النقابات. انتخبه اليساريون والقوميون والإسلاميون المستقلون نقيباً للمهندسين، وحاربه الإخوان المسلمون الذي لم ينضم إليهم يوماً. لقّبوه سخريةً بـ «ميشيل شبيلات» ودفعوا بمرشّح ضده. ورغم ذلك فاز نقيباً للمهندسين، المنصب الذي خوّله الظهور ناطقاً باسم مظالم الشعب الغاضب في الجنوب. اجتمع الإصلاحيون بأطيافهم المختلفة لتنظيم مؤتمر وطني. وتقرر عقده على أن يكتب بيانه ليث. تحرك الملك لمواجهة هذه الدعوة بالدعوة للميثاق، وتقرر إجراء انتخابات برلمانية.
يتذكّر اليوم تلك المرحلة: «الفراغ الذي حولي كان يشعرني أنا المواطن البسيط الضعيف، كأنني ألعب الشطرنج مع الملك شخصياً، لم أعتقد يوماً أن أي شخص مهما بلغت أهميته قادر بمفرده على أن يتسبّب بتحرك مضاد من نظام قوي.... لولا أن النظام ممتلئ بالفراغ لما تسببت مبادراتي بحركات مقابلة من الملك شخصياً».
«لا للميثاق» كان شعاراً مشتركاً في صفوف المعارضة، لكنّ أكبر حزب في هذا الصف «حزب الإخوان المسلمين» أخلّ بالاتفاق بعد الانتخابات، بل تفاوض على المشاركة في الحكومة، وكذلك فعل القوميون واليساريون. المسيحيون واليساريون والقوميون وقواعد الإخوان ــــ لا قيادتهم ــــ هم ناخبو شبيلات الذي ترشّح عن «دائرة الشانزلزيه» (1989) كما كانت تسمى لكثرة ما فيها من أرباب الأموال والسياسيين المخضرمين. فلماذا يرشحه هؤلاء؟ «ينتخبونني لأنّي متشدد ولست متعصباً، تشددي في مبدئي ينصفهم وتعسفي يظلمهم». أوشك تشدد رئيس لجنة التحقيق النيابية هذا أن يحيل أحد رؤساء الحكومة إلى المحاكمة، «فدبّرت لي قضية «النفير» واتهم أربعة أشخاص لا غير بالتآمر لقلب النظام، وحكمت بالإعدام».
بعد 75 يوماً في المعتقل، كشفت المحاكمة التزوير، وأصدر الملك عفواً عاماً أخرجه به، وفي الوقت نفسه، سقطت كل التهم عن المسؤولين في قضايا الفساد. فهل ضربت العصافير كلها بحجر واحد؟ بدأت لعبة الانتخابات مرة أخرى (1993)، وقرر الملك تمرير قانون «الصوت الواحد» الانتخابي الذي شرذم الانتخابات إلى عشائرية مغلقة. قررت المعارضة المقاطعة، لكن بعد خطبة مخيفة أعلن فيها الحسين غضبه على كل من يقاطع، أعلن المراقب العام للإخوان المسلمين «الحسين نادى وعلينا أن نلبي». أمّا ليث، فتمسّك بالمقاطعة واعتزال النشاط السياسي مكتفياً بالنقابي والثقافي.
تتوقع وأنت تتحدث إلى شبيلات أنك تجالس سياسياً يسارياً بلا شك: «أنا معروف بأني شخصية إسلامية لكن صدقي مع ديني يجعل أي عضو من «التيار الوطني الحر» في لبنان مثلاً أقرب إلي من كثير من «الإسلاميين» الذين يغازلون أميركا». زهير العيتاني رئيس جمعية تجار الحمرا هو من علّم ليث الصلاة في بيروت، حيث كان يسكن ابن السفير ووزير الدفاع فرحان شبيلات، وحيث درس ليث الابتدائية والثانوية والهندسة في الجامعة الأميركية.
بعد اختياره الحياة والعمل في روما، كان الشاب الثري بسيارته الـ «سبور» رفيق الكثير من الصبايا يواجه بأسئلة كثيرة عن الإسلام، فيجيب ويفحم السائلين. الطليان هم من جعلوه يعود للإيمان، إذ قال لنفسه: «إن إجاباتك عن الإسلام مقنعة، فلماذا لا تؤمن أيها المنافق؟». وفي الأردن تعرّف إلى جماعة الشيخ حازم أبو غزالة واتبع الطريقة الصوفية الشاذلية. فهل سمعتم بفتن آخر الزمان؟ أن يضطر معارض إسلامي إلى دعم حكم فردي، تاركاً كثيراً من المصلين يلبدون في حضن أميركا؟
هذا ما كان من أخبار شبيلات الذي ظهر اسمه مع قوائم «كوبونات العراق». أمام التوتر بين الأردن والعراق وضخامة مصالح المواطنين هناك، كانت بعض الشخصيات الأردنية تؤدّي دوراً وسيطاً. النظام الأردني يميل مع الموقف الأميركي ويسرّه أن ينفّر الشعب من النظام العراقي، فلم يحرك ساكناً حين أعدم النظام العراقي أردنيين متهمين بالتهريب. لجأت عائلات المعتقلين إلى شبيلات طالبة منه التوسط لدى صدام حسين، فأرسل الأول رسالة شديدة اللهجة قال فيها «إن المهربين على طرفي الحدود تحميهم القيادات، من أمثال الخائن حسين كامل الذي لم تكشف خيانته التهريبية إلا خيانته السياسية. أما المواطنون البسطاء، فتطبّق عليهم الأحكام».
مرّ أسبوع قبل أن يطلب صدام حسين لقاء شبيلات، وبعد حوار مطوّل عفا عن جميع المحكومين الأردنيين حتى الجواسيس منهم. اليوم شبيلات خارج «المهرجان السياسي القذر»، والسبب أنّ مسيرة هدم المؤسسات الدستورية تسير بوتيرة مرعبة، والوضع الآن لا يقارن بما كان في الخمسينيات... حين كان الأردن أقرب إلى النظام والدولة. الآن «الحكم منفرد والقائد يتدخّل في اليوميات، وهو أمر غير دستوري. وفي السياسة الخارجية يسافر وحده من دون وزير خارجية، وهلمّ جرا... خرجت احتراماً لنفسي، هذا أفضل من البقاء مع مَن لا يريد أن يسمّي الأمور الإصلاحية بأسمائها».


5 تواريخ

1942
الولادة في عمّان

1982
انتخب نقيباً للمهندسين وعيّن عضواً في المجلس الاستشاري

1992
اعتقاله في قضية «النفير» والحكم عليه بالإعدام

1998
رفضَ عفو الملك وأمضى مدته، بعد اعتقاله ومحاكمته بسبب أحداث معان الثانية. وفي 2001، انتقد علناً تسجيل أراضي الخزينة باسم الملك شخصياً فتلقّى تهديدات بالقتل.

2008
شبيلات رئيس جمعية مناهضة الصهيونية والعنصرية أرسل خطاباً إلى رئيس الوزراء الأردني نادر الذهبي ينبّهه فيه لخطورة بيع الأراضي الأردنية وإلغاء مهرجان «جرش» وتمويل مهرجان «الأردن» بتعبيره: «من جانب جهات صهيونية»