سعد الله مزرعاني *و«بديهي» (!) أن يحظى الشعب الفلسطيني بالنصيب الأكبر من الهمجية الصهيونية، وخصوصاً في هذه المرحلة بالذات. ونقصد بذلك، التذكير بأن إسرائيل، ورغم كل ما مارسته من الإجرام والعدوان، وما تيسر لها من أسباب التفوق والدعم، السياسي والعسكري والمالي، قد اضطرت إلى التخلي عن حلم «إسرائيل الكبرى». ما زال بعض المتطرفين يتشبت بذلك، لكن معظم القوى السياسية الإسرائيلية بات يدرك أن ذلك أمر مستحيل. ومن هنا برز في آن معاً، موضوعا: إدماج إسرائيل في البنية الشرق أوسطية بعد تضييع فكرة القومية العربية وإلغائها وتبديدها (وخصوصاً ذات المضمون التحرري سياسياً واجتماعياً)، وبلورة فكرة «يهودية الدولة» التي حاول الرئيس الأميركي تسويقها وفرضها في قمة «أنابوليس» في أواخر عام 2007.
نتذكر من الوقائع، أن محاولات حثيثة بذلها الأميركيون في عهد الإدارة الحالية، من أجل دفع المتغيرات المذكورة إلى حيّز التنفيذ:
ـــ إطلاق مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي يضم أيضاً إسرائيل، والذي عقدت إدارة بوش في مجرى السعي لتنفيذ حلقات أساسية فيه، قمماً عدة لـ«محور الاعتدال العربي» (برعاية بوش وحضوره أو من يمثله). كانت إسرائيل حاضرة غائبة في هذه القمم. أما من الناحية الأمنية فقد تصاعد مستوى التنسيق بين الحكومة الإسرائيلية وبعض دول «محور الاعتدال»، إلى درجة غير مسبوقة.
ـــ إطلاق يد رئيس وزراء إسرائيل أرييل شارون (تزامن تسلمه رئاسة الحكومة الإسرائيلية، تقريباً، مع تسلم بوش الابن رئاسة الولايات المتحدة الأميركية)، في محاولة تصفية المقومات السياسية والمادية والاقتصادية للشعب الفلسطيني، وبكل وسائل القتل والدمار والإرهاب والحصار.
ـــ تبني «فكرة يهودية» الدولة الصهيونية، كما ذكرنا، مع ما يعنيه ذلك من احتمال فعلي ليس فقط لإسقاط حق عودة الفلسطينيين إلى أرضهم بموجب القرار الدولي 191، بل أيضاً لتشريد من بقي منهم في أراضي 1948. وقد كان طرد النائب الفلسطيني عزمي بشارة من إسرائيل أحد أشكال تنفيذ هذه العملية. إن وراء قرار الطرد هذا أكثر من مجرد تهمة «الاتصال بالعدو في زمن الحرب». إن وراءه أساساً ما كان يلح عليه بشارة وفريق من فلسطينيي الداخل، من ضرورة تخطي المطالب بعدم التمييز ضد الفلسطينيين، إلى التعامل معهم كجماعة قومية ذات مميزات وحقوق وحضارة وثقافة.
يحاول قادة إسرائيل اليوم «تحييد» الجبهات الأخرى، (الجبهة السورية) ولو كرهاً. وهم يركزون على ضرب مقومات بناء دولة فلسطينية مستقلة لهذا الشعب. إن بناء «الدولة اليهودية» مشروط، في نظرهم، بعدم بناء دولة فلسطين. وذلك يتطلب أول ما يتطلب، تصفية مقاومة الشعب الفلسطيني، وضرب قواه المقاومة في كل مكان: في قطاع غزة، وأيضاً وأساساً في الضفة الغربية، حيث القاعدة الأساسية الموضوعية لبناء نواة وأساس للدولة الفلسطينية المستقلة.
أما على المستوى الفلسطيني، فيجب أن نشير إلى أمرين: أولهما، خطأ الاعتقاد أن «غزّة» هي المستهدفة دون سواها، بسبب أنها محكومة من حركة «حماس»، وبسبب أن «حماس» قوة مقاتلة تطرح أهدافاً جذرية في الكفاح والتحرير وتصنّف نتيجة ذلك حركة «إرهابية». وثانيهما، خطأ الاعتقاد أن تصفية «حماس» سيريح الوضع في الضفة الغربية المحتلة أيضاً، وسيتيح شروطاً أفضل للمفاوض الفلسطيني باسم «السلطة» في «رام الله»، من أجل الحصول على المطالب التي يسعى إلى تحقيقها! إن ارتفاع مستوى العنف والجريمة والحصار الهمجي ضد «غزة» (الذي تشارك فيه أطراف عربية) هو خطوة أولى واضحة، بل مفروضة، في مخطط مستمر لتصفية مقومات بناء دولة فلسطينية تجسد الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.
أما الخطوة الثانية في الضفة الغربية التي سيتخذ تنفيذها طابعاً أكثر عنفاً وإرهاباً وإجراماً، فستلي ذلك (وإن كانت قد بدأت بالفعل في الضفة الغربية ودون توقف، وبكل الوسائل: جدار الفصل، بناء المستوطنات، الاغتيالات، الاعتقالات، الحصار، الاحتفاظ بآلاف الأسرى، تعطيل مؤسسات السلطة وقدراتها...). باختصار سيؤكل «الثور الأسود» في «رام الله»، بعد أكل «الثور الأبيض» في «غزّة»، حسب رواية ابن المقفع في كليلة ودمنة!
ووفق هذا المسار، فالمطلوب، من كل من «فتح» و«حماس»، أي من الرئاسة في «رام الله» و«الحكومة المقالة في «غزّة»، إدراك هذه الحقائق الخطيرة، ثم تدارك ما يمكن تداركه من وخيم العواقب على كلا الطرفين خصوصاً، وعلى الشعب الفلسطيني وكفاحه البطولي وتضحياته الهائلة، عموماً.
وفي الذكرى الرابعة لاغتيال ياسر عرفات (بالمناسبة أين أصبح التحقيق لكشف الكيفية التي جرى من خلالها قتله؟)، الأحرى بكل الذين عرفوه (وقد عرفوه جميعاً!)، وبكل الذين خسروه (وقد خسروه جميعاً أيضاً!)، استعادة بعض ما كرّسه في عمله وعلاقاته ومواقفه. في جانب من تجربة عرفات، وهي تجربة تاريخية وغنية وحافلة بالدروس والنجاحات والإخفاقات، يطالعنا حرصه على الجمع ما بين الدبلوماسية (المفاوضات) والقتال، وما بين بناء تنظيم حزبي (حركي) وما بين المؤسسات المشتركة للثورة وللفصائل الفلسطينية، وللشعب الفلسطيني. كما يطالعنا حرصه على الوحدة الوطنية في كل الظروف، وخصوصاً في أصعبها. هذا إلى اعتماده الديموقراطية (في حدود مقبولة)، بما وفر الحد الضروري من المشاركة ومن الاحتكام إلى صندوق الاقتراع.
هذه العناصر المذكورة عن تجربة عرفات، متداخلة ومتكاملة، وهي التي طبعت بطابع خاص مرحلة كاملة من نضال الشعب الفلسطيني. ما بعد عرفات، اشتدّ التنافس وغابت الضوابط، وانتهى إلى ما انتهى إليه اليوم من انقسام يكاد يفوق ضرره وآذاه ذلك الناجم عن العدو الصهيوني.
لا عذر لأي جهة فلسطينية لا تحرك ساكناً حيال الإجرام الصهيوني والتآمر الأميركي والتواطؤ الرسمي العربي. وأول المطلوب المباشرة في صياغة عناصر جديدة للوحدة والنضال الفلسطيني، لكي لا «تؤكل» كل قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه وتضحياته، وليس فقط رأس هذا الفريق الفلسطيني أو ذاك.
* كاتب وسياسي لبناني