محمد داوودللأنفاق رواية تاريخية حافلة، وشرف بطولي ونضالي ثوري، انطلقت باكورته الإبداعية الأولى التي تستحق كل تمجيد واحترام عندما وظفها الشهيد غيفارا غزة كمأوى يتحصّن به ليواصل مقاومته للاحتلال الإسرائيلي. كما ساعدت الأنفاق في مرحلة سابقة لربط المنازل التي يقطنها مناضلون ومطاردون، فكان يعجز الإسرائيليون عن معرفة أماكن وجودهم أو مراقبتها، وبالتالي أخذ هذا الأسلوب أبعاداً في ظل تطور وسائل الصراع والحاجة إلى اختراق الحصون والمواقع الإسرائيلية، وهو ما شهده قطاع غزة قبل اندحار الاحتلال عنه عام 2005، وكانت أبرز تلك العمليات الفدائية «محفوظة، ومعبر رفح، والسهم الثاقب، والوهم المتبدد...».
إلا أنّ الحصار الذي فُرض على قطاع غزة عقب سيطرة حركة «حماس» عليه في يونيو / حزيران العام الماضي، أخذ يرسم فصولاً من المعاناة، لا سيما بعد إغلاق معبر رفح الذي يمثّل المنفذ الوحيد لدى ما يقارب من مليون ونصف مليون نسمة في قطاع غزة الخاضع للحصار. فلم يعد المعبر يفتح إلا في الحالات الإنسانية الطارئة، بعد إعلان إسرائيل قطاع غزة كياناً معادياً، وإغلاقها كل المعابر المؤدية إليه ومنع استيراد البضائع وتصديرها، وبالتالي أخذ هذا الواقع الجديد يروي قصصاً وحكايا الأنفاق الفلسطينية وأساليب حفرها وضحاياها، بعدما امتدت إلى خارج الأرض الفلسطينية، باتجاه سيناء وأرض مصر الشقيقة، فمثلت حالة استثنائية لصورة الحياة الإنسانية الفلسطينية وضرورة إيجاد البدائل، لتلبية المتطلبات والحاجة، فكان محاصراً بين شروط الإكراه السياسي، ومطامع البشر. فمصر كانت تعلم بها وتتستر عليها، وتحتضن أولئك المتنقلين بين الأنفاق ذهاباً وإياباً على مر الأعوام السابقة، لا سيما أولئك الذين يهرّبون الأسلحة والذخائر للفصائل الفلسطينية المقاومة لإرساء قاعدة قوة الأخيرة حتى تواصل نضالها ضد الاحتلال. لذلك كانت مصر تتعامل مع هذا الشأن من منظور قومي ووطني وعاطفي وإنساني، وأيضاً تجاري ربحي في أحيان أخرى، لسد حاجات المواطنين الغزّاويّين، ما دامت بعيدة عن المساس بأمنها القومي. إلا أن هذه الآفة أخذت مناحي وانتشرت وأصبحت روح الغزاويّين وشغلهم الشاغل خلال العامين المنصرمين، وأصبحت الرئة الوحيدة للقطاع، تستثمر لتهريب حيوانات أليفة وغير أليفة، وأحياناً البشر، وفي الغالب البضائع مثل الملابس والأحذية والأجهزة
الإلكترونية
والأغذية الجبن واللبن والشاي والقمح والسكر ومواد أخرى مثل الأسمدة والأدوية،
بما في ذلك الفياغرا والمحروقات والعتاد.
لكن المقلق هو تهريب بعض الأشياء غير الشريفة مثل المخدرات والعقاقير، وإغراق الأسواق بالسجائر والسلع التي لا تغني ولا تسمن من جوع. والحق يُقال إنها أسهمت في تأمين بعض وسائل العيش ودعم المقاومة.
لهذا عبّرت إسرائيل في السابق عن خشيتها من هذه الظاهرة باعتبارها وسيلة تأمين
وإمداد لوجستي للمقاومة، فسارعت إلى إطلاق المقترحات والخطط لمواجهة سيل الأنفاق المتدفق، فاقترحت بناء جدار إسمنتي عميق وشاهق، كما اقترحت أيضاً بناء سد مائي يهدّد كل نفق يحفر بالغرق، في ذلك المحور المعروف باسم «فيلادلفيا». لكن جميع هذه الأفكار بقيت مجرد مقترحات يصعب تحقيقها.
إن التطور المصري في التعامل مع ظاهرة انتشار الأنفاق أخذ في الزيادة نتيجة أزمة العلاقة وإغلاق معبر رفح، لا سيما بعدما سيطرت «حماس» على القطاع، وكثافة الضغوط الخارجية على مصر للحد منها. وهنا قدمت أميركا دعماً مادياً وساهمت في تأهيل الضباط المصريين وإرسال خبراء وتقنيات تكنولوجية حديثة تساعد في اكتشاف الأنفاق ورصدها وإغلاقها، رغم الكلفة الباهظة في حفرها، حيث يستغرق حفر النفق الواحد خمسة أشهر على الأقل بتكلفة تصل حوالى أربعين ألف دولار على الأقل. ويتّسم النفق بعمق يصل أحياناً إلى خمسة عشر إلى خمسة وثلاثين متراً، وبعرض مترين، وطول بين كيلومتر إلى 3 كيلومترات في مناطق
العشائر.
أما الأموال التي يجري تداولها هناك، فهي مبالغ طائلة تقدر بعشرات الألوف من الدولارات، وأرباح يجنيها أصحابها تكفي لأن تكون من أثرياء هذا العالم، ولكنها تبقى محفوفة بالمخاطر والمشقة، وهو ما كشفته حالات الموت التي راح ضحيتها عمال الحفر خلال السنوات الأخيرة. لكن من أجل المال، تهون الأنفس، فلا يكاد يوم يمر من دون أن تطالعنا وسائل الإعلام بخبر عن ضحية في نفق. وقد سجلت الفترة الأخيرة زيادة بالغة في عدد الضحايا، بعدما قضى ستة مواطنين خلال تفجير داخل نفقين.
وهناك كثيرون قضوا أثناء حفرهم الأنفاق التي تحتاج إلى عدد كبير من العاملين على مدار الساعة لتجهيزها، فيما يرى آخرون أن هذه الظاهرة ساهمت في تقليص نسبة البطالة المستشرية في القطاع، وهذا لا يعني أنها مفيدة وتلبي طموحات الشعب الفلسطيني، باعتبارها ظاهرة سلبية ومرفوضة عالمياً لأنها غير شرعية أولاً، وتستنزف اقتصاد الشعوب ومواردها ثانياً، وثالثاً تعزز خلق الأسواق السوداء واحتكار السلع، وأخيراً تساعد في تهريب
المحظورات.
لذلك تحارب الحكومات هذه الظاهرة مهما وصلت درجة الحاجة إليها.