علاء اللامي*حاول الإعلام الحكومي العراقي تصوير مطالبة نوري المالكي وبعض أركان حكومته بإدراج مطلب جدولة محدّدة التواريخ لانسحاب قوات الاحتلال ضمن بنود اتفاقية «سوفا» الأمنية الاستراتيجية الطويلة المدى، على أنها اختراق سياسي كبير، ومشروع تصادم ذو دوافع «وطنية استقلالية». من جهتها، دأبت قوى وشخصيات مناهضة ومقاومة للاحتلال على رفع هذا المطلب منذ بدايات الاحتلال بوصفه الشعار الأهم الذي تتمحور حوله حركتها.
الحملة الحكومية الإعلامية فقدت مصداقيتها وزخمها مبكراً لأسباب عديدة:
ـــ أولاً، جاءت تناقضات الفريق الحاكم وخلافاته في التحالف الطائفي والعرقي لتهز بشدة مصداقية مطالبات المالكي، حيث كانت تصريحات القيادات الكردية فاقعة في رفضها تأخير إبرام الاتفاقية مع الاحتلال ودعوتها إلى توقيعها دون التدقيق المتشدد في مضامينها، الأمر الذي دفع بالمالكي إلى سحب ملف التفاوض من الوزير هوشيار زيباري وفريقه المفاوض وإناطته بمستشاريه المقربين.
وهناك كلام ممتعض من الاتجاه السياسي الحاد شكلاً الذي اتخذته حركة رئاسة الوزراء ومجموعته، صدر عن أطراف التحالف القريبة منه، كحزب «المجلس الإسلامي الأعلى» بزعامة آل الحكيم. كما أنّ جهات كان يُنتظَر منها تضامن صريح مع مطالبات المالكي، كـ«جبهة التوافق»، لم تكن على الموعد، وبدرت من أقطابها تصريحات لا تقل تطرّفاً عن التصريحات الكردية المرحّبة ببقاء قوات الاحتلال لأعوام مقبلة. مثال ذلك نجده في التصريح اللافت في صراحته للناطق الرسمي باسم الجبهة، سليم الجبوري (لإذاعة «سوا») الذي رأى أنّ أي انسحاب لقوات الاحتلال، وخصوصاً من بغداد خلال العام المقبل، مبكر وسابق لأوانه، خوفاً من عودة الميليشيات والمنظمات المسلّحة وتدخّلات دول الجوار.
ـــ ثانياً، لم تكن مطالبة المالكي بجدولة انسحاب القوات المحتلة حاسمة وجازمة، وأقصى سقف بلغته هو ذلك الشعار الذي ورد في خطاب أدلى به المالكي في مؤتمر سنوي لإحدى القبائل العربية في بغداد، حيث قال إنّ الموافقة على جعل الانسحاب الأميركي بسقف محدود زمنياً أمر ممنوع بالنسبة لنا!
كما تبدو الادعاءات الحكومية بخصوص رفع الحصانة عن قوات الاحتلال وقوات المرتزقة المساعدة لها، وكأنها سجلت انتصاراً حاسماً وأجبرت الإدارة الأميركية على التنازل لها عنها، مجرد أكذوبة من الحجم الكبير.
ففي التفاصيل، يخبرنا رئيس الوفد العراقي المفاوض الحاج حمود أن قوات الاحتلال ستظل تتمتع بالحصانة القانونية ما دامت تنشط داخل قواعدها أو تقوم بعمليات عسكرية وافقت عليها القيادة العسكرية الأميركية أو التابعة لحكومة بغداد. وحتى خارج هذه الشروط، فإن القضايا موضع الخلاف التي تتعلق بارتكاب جرائم عمدية والقيام بمجازر وما شابه، لن تحال إلى القضاء العراقي مباشرة بل إلى لجنة قضائية مشتركة «عراقية ـــ أميركية». بكلمات أخرى: لن نربح من انتصار الحكومة المزعوم سوى قبض الريح!
ومن الواضح أن المالكي قرر أخيراً (وكالات الأنباء 30 أيلول 2008 ) أن ينحني بل يركع للعاصفة الأميركية، ويعلن عن استعداده لتسوية معينة مع الاحتلال حول هذه النقطة المحورية تحديداً.
قبل ذلك، أدلى النائب سامي العسكري، (الذي وصِفَ في فترة ما بأنه أحد مستشاري المالكي الأكثر إثارة للجدل)، بتصريح ذي مغزى لهيئة الإذاعة البريطانية في 17 آب 2008 يتبين من خلاله أفق مسرحية المفاوضات الدائرة بين الاحتلال والحكومة الصنيعة؛ فالرجل يعترف بأن «اتفاقية العراق مع الولايات المتحدة ستنهي الوجود العسكري في العراق، ولكن سيبقى التأثير السياسي للولايات المتحدة موجوداً حتى بعد انسحاب القوات».
الأكيد هو أنّ العسكري قد بالغ كثيراً حين أعلن في اللقاء ذاته أن «الوفد الأميركي المفاوض حاول أن يجعل من وجوده العسكري أمراً واقعاً في العراق في المسودة الأولى التي طرحها في المفاوضات (...) ولكن جميع القوى السياسية في مجلس الأمن الوطني السياسي رفضت المسودة وأكدت على نقطتين رئيستين: الأولى تحديد موعد لانسحاب القوات الأميركية من العراق، والثانية صلاحيات القوات الأميركية وحصانتها». هذه الخلاصة المبالَغ بها لا يمكن أن تصمد للحظة أمام صلابة الحقائق التي تقول إن الإدارة الأميركية لا تريد سوى سحب قواتها، مع الحفاظ على ماء الوجه وشبكة قواعد عسكرية محصّنة وحكم طائفي يدور في فلكها، لا أكثر ولا أقل. فالإدارة الصقرية لبوش تحزم حقائب المغادرة، والمسرح السياسي العالمي على وشك الانقلاب رأساً على عقب مع العودة الروسية القوية للغة الندية مقابل الغرب وأميركا في المجابهة الأخيرة في جورجيا.
مصادر صحافية وخبراء استراتيجيون، بينهم أميركيون، أكدوا مراراً في الفترة الأخيرة حقائق عدة يحاول الاحتلال وحلفاؤه التعمية عليها ومنها مثلاً:
ـــ أنّ إدارة بوش ما زالت ترفض بشدّة تحديد أي أفق زمني لجلاء قواتها المحتلة.
ـــ أنّ القوات الأميركية في حال «انسحابها» ستنتقل من المدن إلى القواعد العسكرية خارجها، وستبقى مسيطرة على الأجواء والمياه الإقليمية والحدود الدولية للعراق.
ـــ أنّ قوى عراقية مهمة ما زالت ترفض أي انسحاب لقوات الاحتلال في المدى المنظور، وهذه القوى لا تضم التحالف الكردستاني وحزب المجلس الأعلى فحسب، بل انضمت إليهما أخيراً وبقوة جبهة التوافق.
ـــ ضمنت الإدارة الأميركية لجنودها ولمرتزقتها المتعاقدين حصانة وضمانات جيدة أقرّ الجانب الحكومي العراقي بها ضمنياً.
ـــ مصادر أميركية رسمية وأخرى عراقية قريبة من دائرة القرار أكدت أن الوضع لن يتغير حتى بوجود جداول الانسحاب ومواعيده ومسرحيات تعديلها والخلاف عليها، وسواء انسحبت الولايات المتحدة في 2011 أو بدءاً من حزيران / يونيو 2010، وسواء ربح ماكاين الانتخابات أو أوباما، فإن الخطة الأميركية لاحتلال العراق والهيمنة عليه لأمد طويل ستبقى كما هي، غير مرتبطة برئيس أو بإدارة، بل بمصلحة الدولة الإمبريالية الأولى.
قضية أخرى لا تقل أهمية وهي المتعلقة بموقف القوى المناهضة والمقاومة للاحتلال أو ـــ إن شئنا الدقة ـــ لما بقي منها، من موضوع المعاهدة عموماً والمطالبات بالجدولة خصوصاً.
لقد تحولت «جدولة الاحتلال» لسنوات خلت إلى كلمة سحرية وشبه مقدسة رفعتها تلك القوى والشخصيات، وما زالت تراها عصا موسى الكفيلة بتحقيق جميع الأهداف وقلب المشهد السياسي والوضع التاريخي العام الذي يعيشه العراق.
لقد ساعد واقع أنّ إدارة بوش وحكومة بغداد المتحالفة معها رأت «الجدولة» كفراً وإرهاباً لا يمكن التسامح معهما على تحجر المطالبين بالجدولة عند راياتهم وعدم الإقدام على تفحصها أو مراجعتها أو تطويرها.
واليوم، وحين رفع المالكي شعار الجدولة والجلاء المحدّدين بالتواريخ، لحقت به قوى عديدة لتمتطي هذا «الحمار المقدس»، (لن يكون الحزب الشيوعي العراقي / جناح حميد مجيد آخرها). وفقدت تلك القوى والشخصيات المناهضة والمقاومة للاحتلال البساط السياسي الذي كانت تقف عليه أو، في أقل تقدير، دخلت في حالة من فقدان الوزن السياسي والفراغ البرنامجي، مع أن رفع شعار الجدولة الفضفاض والمقطوع الفروع والجذور ما كان ولن يكون برنامجاً حقيقياً في مواجهة احتلال نوعي وخطير وشرس كهذا الذي يرزح تحته العراق.
* كاتب وصحافي عراقي