دفنت، في السنوات الأخيرة، 27 جثة عائدة لفلسطينيين من أهالي مخيم برج البراجنة، كانت تحوي أعضاءً اصطناعية داخلية مختلفة: ركب، أوراك، مفاصل جهاز للسمع داخل الدماغ وما يعرف شعبياً باسم «أسياخ حديد». سأل أطباء المخيم الأهالي إذا كان ممكناً التبرع بالأعضاء بعد وفاة أصحابها؟ فكان الرد إيجابياً، شرط أن تُعار الأعضاء لا أن تُباع. أي أن يعاود المستفيد التبرع بها لمحتاج محتمل
قاسم س. قاسم
«لما مات الصبي، دقولي من المستشفى» يقول حسن الفريجي، والد الطفل المتوفّى يوسف ابن الـ12 عاماً في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. كانت الصدمة كبيرة على والده. برغم ذلك رفض إخراج ابنه من المستشفى إلا بعد نزع جهاز كان قد رُكّب له بين الأذن والدماغ. أما السبب فقد كان أن أحد جيرانه يعاني ابنه المشكلة نفسها.
لذا اتصل الوالد بالطبيب وسأله إذا كان بالإمكان نزع الجهاز من رأس ابنه المتوفّى. فوافق الطبيب على نزع الجزء الخارجي من الجهاز، فيما قال إنه لن تكون للداخلي أية منفعة. اليوم، يستعمل محمد علي السفوري الجهاز، ولا يزال يدعو بالخير لحسن والرحمة ليوسف.
تجلس أم يوسف الفريجي بالقرب من صورة يوسف، وتستغرب كيف أن هذه الفكرة خطرت ببال زوجها. تفرح بفكرة الزوج لأنها أكيدة من أن من أخذ الجهاز يستحقه. أما بالنسبة للوالد، فقد قال إنه اتخذ قراره بالتبرع، لأنه يشعر مع «من يحتاج مثل هذا الجهاز، لأنه ليس من السهل تأمين ثمنه».
أراد الكثيرون من أبناء مخيم برج البراجنة، من أصحاب الأعضاء الاصطناعية، التبرع بها عند وفاتهم. أم منير الديماسي كانت واحدة من هؤلاء. تبتسم هدى عندما تتذكر والدتها المتوفاة. فقد وافقت الحاجة قبل وفاتها بأسابيع على التبّرع بوركها الاصطناعي.
«لم تعد بحاجة له بعد الآن» كما تقول هدى لـ«الأخبار»، التي التقتها في منزلها بالمخيم. دفعت المعاناة التي عاشتها الحاجة لتأمين ثمن «الورك» إلى الموافقة على التبرع به عند موتها دون أي تردد. احتاج تأمين المال إلى «لميّة»، فانتشر الخبر في المخيم والداخل والشتات. تبرع الجميع بحسب قدرته، وصل المال حتى من الداخل الفلسطيني.
كما أن فلسطينيي أوروبا كانوا أيضاً حاضرين «فالترابط الاجتماعي لا يزال قوياً بين أبناء شعبنا» حسب هدى. أنقذت «اللميّة» أم منير وركب لها الورك، لكن أمنيتها بالتبرع به لم تتحقق. واجهت العائلة العديد من العقبات وهي تطالب بنزع الورك. فلم يستطع الأطباء إخراجه لعدم توافر المكان لإجراء عملية التشريح وإعادة تأهيل العضو الاصطناعي. أُهيل التراب على الحاجة ووركها، أما هدى فهي تفتخر بأن والدتها «كانت تنوي التبرع».
لم تقتصر التبرعات على المفاصل والأوراك الاصطناعية، بل تعدّتها لتطال «الأسياخ الحديدية».
لم ينس محمد العرب كيف أن وقوعه سبّب له كسوراً في يده، تطلّبت إجراء عملية تركيب «سيخ بلاتين». بقي السيخ في يد محمد عاماً ونصف، لكن محمد أخذه معه عندما نزعه له الطبيب. يشير إليه بعدما وضعه في «مرطبان». «سأتبرع به، يقول، فقد كلّفني 500 دولار سأوفرها على المحتاج إليه».
ربما كان في كلام محمد العرب المفتاح لقصة التضامن الاجتماعي هذه. فأسعار هذه الأعضاء تتراوح بين 600 دولار لسيخ البلاتين مثلا، و3500 دولار للركبة و5000 دولار للورك، دون الحديث عن سعر الأذن الداخلية والخارجية (كما في مثال يوسف فريجي) حيث وصل سعر الجهاز إلى 25.000 دولار.
وفي المخيم لكل دولار قيمته. فالفلسطينيون كما هو معروف، ممنوعون من ممارسة 72 وظيفة في لبنان. ولن تستطيع الوظائف المسموح بها أن توفر سعر نصف عضو اصطناعي. للناحية الدينية أيضاً حصتّها في الموضوع، فهؤلاء الفلسطينيون يعملون وفقاً للحديث النبوي الذي يقول: «يقطع عمل ابن آدم إلا من ثلاث: علمٌ ينتفع به، وصدقة جارية، وولد صالح يدعو له». فهم يرون هذه الأعضاء المُتَبرعّ بها صدقة جارية، بين أيدي المحتاجين. ولكن هل تجري الأمور بهذه السهولة؟
واجه العديد من أطباء المخيم الذين أرادوا إجراء عمليات كهذه مشاكل، ربما كانت أهمها محاربة الشركات التجارية الطبية، وحتى بعض المستشفيات، لهم. تنتشر العمولة بين بعض الأطباء والشركات الطبية. فالأخيرة تعرض على كل طبيب 200 دولار عمولة من سعر أي عضو اصطناعي يشتريه المريض من عندها. هذه العمولات تتقاضاها أحياناً المستشفيات وتدفع للطبيب جزءاً منها بشكل «حوافز».
في الفترة الأخيرة، أقدم العديد من الشركات على زيادة عمولتها للأطباء لتجبرهم على إقناع المرضى بأن التبرع بهذه الأعضاء لا يُفيد والأفضل شراؤها جديدة.
المشكلة الأخرى هي مكان استخراج الأعضاء. من الناحية الطبية «ليس هناك أي عائق لإخراج الأعضاء الاصطناعية من الجثث»، حسب د. عبد العزيز العلي. ويشرح، طبيب المخيم «يمكن إعادة استخدام وتأهيل أي عضو غير إلكتروني. حتى أن عملية التشريح لا تتطلب مشغلاً كبيراً، بل يمكن أن تحصل في عيادة. إلا أن أخلاقيات المهنة لا تسمح بذلك»، كما يقول. «هناك احترام للجثة، ولأهل المتبرع، وللمتلقي».
تخطى أحد أطباء البقاع، الذي رفض الكشف عن اسمه «لكي لا ينفر مني مرضاي»، هذه العقبات. فقد استأجر غرفة صغيرة بالقرب من عيادته حيث يشرّح الجثت ويسحب الأعضاء الاصطناعية منها، وإعادة الجسم كما كان «احتراماً للميت».
وسط كل هذا، يبقى مستشفى حيفا، وهو المستشفى الرئيسي في مخيم برج البراجنة، بعيداً عن كل ما يجري حوله. إذ يتساءل أحد أطباء المخيم: لماذا لا يقبل المستشفى إجراء هذه العمليات فيها للتوفير على الفلسطيني سعر عضو اصطناعي جديد!