عمر نشّابةظلام علبة الحديد المتنقّلة يخبّئ شباباً في ربيع عمرهم. ثيابهم الوسخة المبلّلة من شدّة تصبّب العرق تغطّي أجسادهم المورّمة من كثافة كدمات التحقيق الجنائي. تتحرّك الآلية العسكرية بهم صعوداً نحو تلّة رومية حيث وجهة رحلتهم الطويلة الى مأواهم الجديد. تنعطف الطريق نحو اليسار فجأة ثمّ نحو اليمين، ثم اليسار مجدّداً.. يقع أحد الشبان على أرض العلبة السوداء محاولاً التمسّك بها كي لا يميل مع كل انحراف. «قوم! دخيل عرضك قوم!» يتوسّل بيأس يشبه الغضب زميله محاولاً سحب يده الممدودة المربوطة بمعصم زميله بالأصفاد. تنعطف الآلية نحو اليمين مجدداً مساعدةً لعودة الشبان الاربعة الى المكان الذي وضعوا فيه بعد لحظات من خروجهم من نظارة قصر العدل حيث مكثوا مئة عام غارقين في بحر الاحتمالات القضائية المبتدَعة... «ما زبطت... ضحك علينا الكلب بعد ما قال انّو خلص الموضوع منتهي»...
عيونهم يتآكلها سواد أجفانهم، فالنوم مخصّص لسنين تمرّ في القواويش لا لزمن يطول في النظارات والمخافر.
الفصل بينهم رحلة عذاب في صندوق أسود الى سجن رومية لا مثيل له بين إخوته من أقفاص الطيور وزرائب الدواب. علبة تتوسّط سقفها مروحة صغيرة تدور ببطء شديد... يتسلّل منها نور يجذب انتباه الموقوفين الاربعة دون أن يرفعوا رؤوسهم. هم يخشون رفع رؤوسهم إذ إن «مهنية» التحقيقات الجنائية لا تسمح لهم برفعها... ومن هم أصلاً ليرفعوا رؤوسهم؟ من هم سوى موقوفين أبرياء حتى تثبت إدانتهم أمام المحكمة؟!
تعهّد لبنان في الدستور والقانون احترام حقوق الانسان وكرامته. لكن يبدو أن عدداً كبيراً من العاملين في أجهزة الدولة من ضباط ورتباء وموظفين لا يعني القانون لهم شيئاً.
يقول أحد الضباط «انا أحترم حقوق الانسان ولم أضرب أياً من الموقوفين سوى مرّة واحدة... عندما شكت لي كلّ سيدات المنطقة أن الموقوف نشل حقائبهن لكنه لم يعترف الى أن عملتلّو فلقة». مرّة واحدة فقط. هل تكون مرّة واحدة كافية لادعاء النيابة العامة على كلّ من تجاوز القانون وأخفق في أداء مهامه في السجون والنظارات؟ لننتظر التحقيق.