أسد زين غندور *1 ــ إن الصيغة الطائفية للنظام لم تكن تصلح بالأساس لإنشاء دولة، بل لإقامة سلطة مرتهنة لتوازنات طائفية قلقة تعكس التوازنات الإقليمية والدولية المتقلّبة. وكانت هذه الصيغة تتفجّر، كل عدة سنوات، من داخلها، وتؤدي إلى انهيار مؤسسة الدولة وإطاحة السلم الأهلي وتعريض الكيان اللبناني للخطر عندما كانت المتغيرات تعصف في النظام الإقليمي المحيط، تبدّل توازناته وتزعزع استقراره، فهي إذاً صيغة شرّعت لبنان أمام شتى التدخلات وفق المتغيرات الخارجية: الدولية والإقليمية، وخاصة في ظل غياب تيار وطني ديموقراطي عصري وازن وفاعل ومتحرك وقادر على الوقوف في وجه مثل هذه التحديات الخطيرة.
2ــ إن هذه الصيغة عطّلت تحقيق الاندماج الوطني وأبقت نسيج المجتمع ممزقاً، يعاني انقسامات حادة قائمة على عصبيات دون وطنية، وكانت إزاء المتغيرات التي تحدث في المنطقة، تدفع باتجاه تفجير السلم الأهلي وجر البلاد إلى أتون الحروب الداخلية المميتة والقذرة.
وممّا لا شكّ فيه، أنّ هذه الصيغة، وما جسّدته على صعيد بنية الدولة والتكتلات السياسية، قد صادرت وعي اللبنانيين، وبالتالي حشرتهم في مجموعات رعايا لدى أمراء الطوائف، وهي، إذ كانت تعطل اندماج المجموعات اللبنانية في صيغة مجتمع، كانت تعيق بلورة الهوية الوطنية للبنانيين وتعطل تحوّل الكيان إلى وطن.
3ــ إن الدولة، بالمعنى الصحيح للكلمة، لم تقم مرة في تاريخ لبنان. جلّ ما أقامته الصيغة هو «السلطة» التي لا تستند إلى أية شرعية شعبية ودستورية، بل إلى شرعة الطائفة والتوازنات الطائفية التي كرستها هذه الصيغة.
في ضوء هذه الحقائق المرّة، وكذلك في ضوء المتغيرات التي تعصف في المحيط الإقليمي، وفي ضوء جملة التحديات الداخلية والخارجية التي تهددنا، يجب قراءة الأحداث التي شهدها لبنان منذ تأسيسه، هذا الكيان المأزوم بطبيعته، بمرتكزاته، بمكوّناته الأساسية.
ومن خلالها يمكن تحديد مسارها وتوقّع غاياتها، وبالتالي العمل على مواجهة المتغيرات وتعديل المسار الوطني العام بما ينسجم مع الأهداف الوطنية في ضمان السلم الأهلي وإعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس ثابتة وسليمة. إنّ «الصيغة» الطائفية أتاحت في ظروف تاريخية معينة، إقامة كيان، لكنها منعت تحوّل هذا الكيان إلى وطن، وجمعت في هذا الكيان جماعات رعايا، رعايا طوائف وقبائل ومذاهب وحارات، ولكنها منعت تحوّل الجماعات إلى مجتمع وتحوّل الرعايا إلى شعب.
وفي ظروف تاريخية معيّنة ومعروفة أيضاً، أتاحت استقلالاً، ولكنها في كل الظروف منعت السيادة. وأقامت سلطة ومنعت قيام الدولة، وأتاحت، في بعض الظروف استقراراً ووفّرت أمناً، ولكنها منعت تحوّل الاستقرار إلى سلم أهلي راسخ وتحوّل الأمن المؤقت إلى أمان دائم.
وفي ظل هذه «الديموقراطية التوافقية»، تكرّست طبقة سياسية طفيلية لم تتبدّل مرة عن طريق الانتخابات، ولكنها كانت تتغير نحو الأسوأ بعد كل حرب أهلية. أمّا المؤسسات الدستورية التي أنشئت لهذا النظام، فهي لم تستطع مرة أن تحلّ أزمة سياسية، ولكنها كانت تنحلّ وتتهاوى عند كل أزمة سياسية.
في ظل هذا النظام الطائفي المأزوم، كان لبنان دائماً ساحة ولم يكن مرة وطناً، واللبنانيون رعايا في طوائف ولم يكونوا مرّة شعباً.
وبعد أحداث أيار الأخيرة، جاء اتفاق الدوحة كنتيجة لمسار الأحداث، وفرض ما يسمى تجاوزاً حكومة «وحدة وطنية» جرى توزيع الحصص فيها بين الموالاة والمعارضة بما لا يمكّن أيّاً من الفريقين التفرّد في اتخاذ القرارات الكبرى. وهذا أمر مفهوم ومقبول في الظروف التي يمر فيها لبنان اليوم. إلّا أنه من غير المقبول أبداً أن «يتوافق» أطراف الطبقة السياسية على مصادرة مستقبل الوطن وإبقائه رهينة لأزمات نابعة من طبيعة نظامه السياسي، أو وافدة إليه بتأثير الصراعات الدولية والإقليمية التي تجتاح المنطقة. كذلك، فإنه من غير المقبول توافق هذه الأطراف على سدّ كل المنافذ أمام الإصلاح، وإعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس سليمة وراسخة. فباسم «الديموقراطية التوافقية» تحكّمت الطبقة السياسية الطائفية المتخلّفة.
وفي ظلّ التوازنات الطائفية، سادت سياستهم القائمة على التعصّب والنهب وسرقة المال العام وتجويع الناس. وعند أي خلل في التوازنات الهشّة، تنفجر الأوضاع، وتندلع الفتن، وتنشر الحروب القذرة بأبشع صورها ونتائجها.
أما هذا الواقع المتردي والمأزوم، وبدلاً من التعلّم من العبر والمآسي التي عاشها اللبنانيون منذ الاستقلال المزعوم، لغاية اليوم، وطرح مشروع قانون انتخابي عادل وعصري يمثّل مدخلاً للإصلاح السيادي العام، توافق المجتمعون في الدوحة على أسوأ قانون وأكثره تهديداً للسلم الأهلي: إنه قانون الستين.
إن الاتفاق الذي جرى في الدوحة في ما يتعلق بقانون الانتخاب، لجهة جعل القضاء دائرة انتخابية مع اعتماد النظام الأكثري، بأبشع صوره المختلفة، يحمل أخطاراً جسيمة على لبنان والسلم الأهلي فيه، ويسدّ كل المنافذ أمام الإصلاح السياسي وبناء الدولة والمجتمع على أسس وطنية سليمة وراسخة، وأهم ما يمكن ملاحظته في هذا الشأن الآتي:
أولاً: إنّ اعتماد القضاء دائرة انتخابية، في ظروف الفرز الديموغرافي والنفسي القائمة والمتفاقمة، يجعل التمثيل اللبناني مذهبياً بامتياز، وبأشدّ ممّا كانت عليه الحال في أي فترة سابقة، وبالتالي، فإنه يصادر وعي المواطنين وإرادتهم في عصبيات متخلفة ومنغلقة ويحوّل الدولة بالكامل إلى كونفدرالية مذهبية مفكّكة معرّضة للانهيار في كل لحظة، وخصوصاً في ظلّ الصراعات الدولية الإقليمية التي تجري على أرض لبنان من خلال العصبيات المذهبية والطائفية.
ثانياً: إنّ التمثيل النيابي على هذا النحو يؤسّس، كما علّمتنا التجارب السابقة، لحروب أهلية مدمّرة، من دون أن تتوافر هذه المرة أية ضوابط لتلافي هذه الحروب أو الحدّ من نتائجها المأساوية.
ثالثاً: إنّه يقضي بالكامل على كلّ إمكان لإعادة بناء الدولة بالصيغة الوطنية والعصرية.
رابعاً: إنّه يتناقض بالكامل مع المادّتين 24 و27 من الدستور، كما يتناقض مع مقدمة الدستور، وخصوصاً الفقرة «ي» منها، التي نصّها: لا شرعية لأي سلطة تتناقض مع ميثاق العيش المشترك.
خامساً: يتناقض مع وثيقة «الطائف» التي يستند إليها الدستور، والتي تجعل من المحافظة دائرة انتخابية، مع ضرورة مراعاة صيغة العيش المشترك.
سادساً: يسدّ الطريق أمام النخب الشابة، المثقفة والوطنية المتجاوزة للعصبيات الطائفية والمذهبية المتخلفة، ويمنعها من القيام بدورها في إعادة بناء الوطن والمجتمع وبالتالي الدولة.
سابعاً: يجعل النتائج معروفة سلفاً، ومرهونة للنفوذ الخارجي، ولقدرة أصحاب الرساميل على شراء الأصوات وإفساد الذمم.
فهل بقانون كهذا، قانون التعصب المذهبي والطائفي، قانون الفتنة والتحضير لحروب أهلية مقبلة عند أي خلل في التوازنات المحلية والإقليمية، هل بقانون كهذا يمكن بناء الوطن ووقف الانهيارات؟ وهل يمكن من خلاله توفير الأجواء للعمل نحو إعادة بناء عمارة المجتمع اللبناني المتخلعة من الأساس؟ أم أن فرض مثل هذا القانون سيضاعف من الأزمات بمختلف جوانبها السياسية ـ الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ والتربوية، وسيُدخل البلاد في أتون حروب متنقّلة قذرة ـ قاتلة ومدمرة، عكستها التمزّقات التي أنتجتها الصيغة الطائفية للنظام اللبناني.
إن صيغة القانون المقترحة علينا من جانب أمراء الطوائف وزعماء الحروب الأهلية وأصحاب الرساميل والسماسرة والمرابين وتجار الرقيق الأبيض وتجار المخدرات والسلاح وخريجي أوكار الدعارة (الذين فرضوا أنفسهم من خلال هذه الصيغة، «زعماء وطنيين»)، مرفوضة كلياً. كما أنّ التفكير في الإعداد لخطوات مناهضة له، بعيداً عن التنظير، من أجل صحة التمثيل ورفضاً لقانون التعصب والفتنة، يمثّل المهمة الأولى والأساس في هذه المرحلة الدقيقة. مهمّة تقع على عاتق جميع القوى الوطنية والهيئات والمفكرين والكتّاب والإعلاميين والنقابيين والفنانين، الوطنيين، المتضررين من هذه الصيغة وهذا القانون والمنتمين إلى وطن يحلمون به، وطن موحّد ـ عصري ديموقراطي وعلماني، ينبذ الطائفية فعلاً سياسياً ومدخلاً للخناقة اليومية، ويحترم كل الأديان، لا إلى طوائف ومذاهب وعشائر وحارات متخلفة أبسط ما يمكن وصفها به بأنها بقايا القرون الوسطى.
* كاتب لبناني