يعدّ لبنان هدفاً مهماً للمنح، ازداد أهمية بعد عام 1975، مع تحوّل مجال التنمية إلى تجارة عالمية لها ذيولها المتغلغلة داخل أروقة الحكومات، كما إلى موضة تسود فيها قلة التخطيط وتسيطر عليها شبهات الفساد وهدر الأموال.
إعداد: رنا حايك
تُعدّ الحكومات، في مجال التنمية، المانح الأول الذي يهب مباشرةً، من خلال وكالات كوكالة التنمية الأميركية أو وكالة التنمية الإيرانية، أو بشكل غير مباشر، من خلال منظومة الأمم المتحدة ومانحين آخرين (يبدون مستقلين). فأموال التنمية غالباً ما تكون مرتبطة بالسياسة. تعمل اليوم في لبنان مئات المنظّمات التنموية، ضمن منظومة كبيرة تشترك فيها الجمعيات الأهلية اللبنانية مع فاعلين دوليين كثيرين. يكفي، للتأكد من حجم هذه العملية، القيام بزيارة للموقع الإلكتروني
www.lebanon-support.org
وهو الموقع الذي استحدث خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006 والذي من شأنه عرض المعلومات بشأن مسار الأعمال التنموية الجارية وتطوّراتها.
لا شك في أن هذا الموقع يغفل ذكر وكالات تنموية عدة، كالجمعيات الأهلية والتعاونيات التي تتركز في القرى أو كتلك التي آثرت ألا تتسجّل في الموقع، إلا أنه يعطي فكرة وافية، رغم ذلك، عن الأعداد الهائلة للجمعيات العاملة في لبنان. تعتاش هذه الجمعيات على مبالغ كبيرة من التمويل المتأتي من مصادر مختلفة، الذي يصبّ سنوياً في سوق المنح اللبناني: ورغم أنه لا إحصاء محدداً لهذه المبالغ، إلا أنها تقدّر بعشرات ملايين الدولارات.
تتبع معظم الجمعيات، إن لم تكن جميعها، مجموعة من القيم الجوهرية، أهمّها الديموقراطية والشفافية واحترام جميع الشركاء. تستحق هذه القيم كلّ الثناء، ويجب على جميع المواطنين بذل الجهد لترسيخها على جميع مستويات حياتهم، وخصوصاً في مجال علاقتهم بالدولة.
رغم عدم تحقّق هذه القيم بين المواطن وحكومته في لبنان، إلا أنها يجب أن تكون أساس جميع التفاعلات بين جمعيات التنمية والمجموعات التي تزعم أنها تدعمها،
فنحن نسمع ونقرأ ونشاهد بانتظام تقارير عن إنجازات الجمعيات وعن المشاريع التي أرستها. نقرأ عن ورش عمل واجتماعات وحفلات إطلاق مشاريع وقصص نجاح وإنجازات، من دون أن نكون قادرين فعلاً على تقييم صحة هذه الإدعاءات. فبما أن انتخاب إدارة هذه الجمعيات لا يحصل من جانب المجموعات التي تخدمها بل من جانب العاملين فيها، يبدو من الصعب تعزيز محاسبتها.
تنشر بعض الجمعيات الأهلية التنموية ميزانياتها على الإنترنت، وتطرحها للنقاش خلال اجتماعاتها السنوية (التي غالباً ما تنتج منها إعادة انتخاب القيادة ذاتها أو أخرى مستنسخة عنها).
لكن «الشركاء» (كما يطلق على المستفيدين من مساعدات الجمعيات) لا يشاركون في هذه الاجتماعات، ولديهم بالتأكيد أولويات تطغى على ضرورة تعلّم اللغة الإنكليزية التي ستمكّنهم من تفقّد حسابات الجمعية على الإنترنت!
في الحقيقة، إن أمور ميزانيّة الجمعيات تقرّرها مجموعة صغيرة تعتلي قمة الهرم الإداري فيها، وتنحصر النقاشات بين أعضائها.
فالمجموعات تلعب دور المتلقّي السّلبي في المشاريع التي تنفّذها الجمعيات بعدما تتّفق عليها مع الجهات المانحة، ما يستتبع إعادة نظر في قضايا الديموقراطية، الشفافية، والاحترام.
تنطلق من هذه الخلفيات أصوات كثيرة بدأ يتردّد صداها في البلاد. أصوات تطرح أسئلة «مزعجة» مثل: إذا كانت عشرات ملايين الدولارات من المنح التنموية المالية قد استثمرت لمحاربة الفقر في بعلبك، الهرمل، عكار، جنوب لبنان ، باب التبانة وفي المخيمات الفلسطينية، فلماذا لا يزال الناس فقراء ولماذا يصبحون أكثر فقراً يوماً بعد آخر؟
لماذا تصرف ملايين الدولارات على الزراعة، من خلال مساعدات وكالة التنمية الأميركية والاتحاد الأوروبي وآخرين، بينما لا يزال القطاع الزراعي على تدهوره ولا يزال المزارعون يهجرون أراضيهم ويهاجرون؟
لماذا لا يزال مخيم نهر البارد يفتقر إلى المياه والمدارس والمنازل، وسكانه يفتقرون إلى فرص العمل والحقوق المدنية بعد مرور عام ونصف على تدميره، فيما تدّعي أهم المنظمات، وأولاها الأونروا، أنها تعمل هناك لمساعدة الفقراء؟
إن هذه المطالبات الغاضبة تصل لمن يهتم بالإنصات إليها. لكن الإنصات لا يكفي. فعلى المجتمع الأهلي وجمعيات التنمية الأهلية والمانحين الشروع في إعادة نظر في أسلوب عملهم وآليته. عليهم تقييم التأثير الحقيقي للمشاريع التي يرسونها. وإذا امتلكوا الشجاعة الكافية للبوح على الملأ بما يتداولونه سراً في ما بينهم، وللاعتراف بمحدودية، بل حتى، أحياناً، لاجدوى أعمالهم، يصبح الخيار الأمثل هو حلّ منظّماتهم وتوزيع أموال المشاريع على الفقراء الذين سيجدون، بالتأكيد، الطريقة الفضلى لاستخدامها...