يتحدّث عن مكان اسمه بساتين الشعر كأنّه حقيقة، يحدّها من الشمال السماء ومن الجنوب السماوات... ومن «ولدنته» بقيت له وسائد كان يحشوها بورق الصفصاف ليحتفظ برائحة الصيف. واليوم «ما في حدا بيقدر يوصلني لمطارحي» مثل صديقه الحميم زياد الرحباني

نوال العلي
طلال حيدر «شايف لبنان غباش»، ربما بسبب الاحمرار الشديد في عينه التي أُجريت لها عملية جراحية أخيراً. كأنّنا أمام الشيخ إمام حين سئل عن حالة مصر كيف يراها وكان أعمى، فأجاب «ضلمة». هذه المقاربة كانت من اقتراحه، هو ابن القصيدة البعيد عن السياسة و«الضايع» فيها. وليس لديه يقين بأي مفاهيم خارج الشعر. وعلى رغم أنّه تربى في منزل قومي سوري، إلا أنّه لم ينتظم في أي حزب. كانت تنقصه «شجاعة الرضوخ للفكر الجاهز». راقته العلمانية واللاطائفية، وكان ميله ماركسياً لينينياً، قناعات ظلت نظريةً عززتها دراسته للفلسفة في الجامعة اللبنانية ثم واصلها في جامعة السوربون في باريس.
أمّا الحرب التي يصعب ألا تسأل كل لبناني عنها، فقد ظلّ اسمه غائباً فيها. «كنت أتجول في مناطق الذبح عالتذكرة، وكانت حصانتي أنّي طلال المجنون، ولا منطقة محرّمة عليّ ولا حدا رشقني إلاّ بورد». يقول إنّه يكتب بلغة أحلامه، ومَن يسمعه، يدرك أنّه يكتب كما يعيش بالضبط. لغة الكلام لم تتعطّل في غرام الحياة واللهو. تشعر وهو يتحدث بأنك أمام نبع متدفّق أو حقل من الشعر المشمس. تراقبه وهو لا يستطيع أن يعطي جواباً أو تفصيلاً عادياً: كلّ إجابة هي مجاز.
الأشخاص العاديون يجدون ذلك مربكاً وجميلاً، والبعض الملحّ في طلب الردود قد يجد فيه تكلّفاً. بأي لغة يتحدث المرء مع هذا الرجل؟ الشعر غالبٌ دائماًَ، والإجابات المنتظرة مغلوبة.
التقيناه ذات صباح قائظ في الـ«ويست هاوس»، حيث يقيم أثناء وجوده في بيروت، مبتعداً عن أماكن المثقفين. كان متأنقاً على طريقة بلده الثاني إيطاليا. مزاجه يقظ ومراوغ في الاستعارات، وخطواته المتنقلة في المكان تستدرك الشبوبيّة، لذلك لم يكن مستغرباً أن يقول ببساطة «أنا ولا مرّة كنت كبير».
من «ولدنته»، بقيت وسائد كان يحشوها بورق الصفصاف ليحتفظ برائحة الصيف. ويتذكر كرهه للمدرسة، وأول معرفته بالدمع حين رآها خاليةً في عطلة الصيف. أما العمر فيخيفه كأنّه سر، «أنا بعمر أنسي الحاج، إذا هو بيقول عمره أنا بقول». يحتجّ صديقه أنسي: «أنا لا أخفي عمري أبداً. تجدونه موثَّقاً في كل مكان».
ولطول العشرة مع الطفولة، لا تنغلق بوابة المنام أبداً: جرد وذئاب وزهر البيلسان، بعلبك وقلعتها والبيت الحجري العريق. أما النداء الأبوي البعيد «يا طليل»، فيتذكره مستعيداً مشهد العائلة المتأهبة للرحيل إلى طرابلس للعيش والعمل هناك. في عام 1948، تركوا بعلبك وأخذوه يافعاً إلى البحر. لم يعد البحر مجرد زرقة على الخريطة. يتبادل ابن السادسة عشرة النظرات مع المدينة «شافني البحر» يقول، وكان يظنّه لوحاً كبيراً من الزجاج الأزرق!
في هذه السن، كتب حيدر أولى قصائده، بدأ الكتابة بالفصحى والفرنسية، ونظم متأخراً الشعر بالإيطالية أيضاً (ولا يزال)، لكنه اختار المحكيّة لتكون نسيج قصائده كلها. «ما في لغة بتنكتب، بيصير في لغة لما بقرر أكتب». يختال الشاعر بصنيع لغته، كامرأة تدرك حجم فتنتها، «لا يكفي طلال حيدر ليقرر مستقبل اللغة». الإبداع المجتمعي لا الفردي هو الذي يفعل. لكن «التزمّت الأزهري وتزمّت العقل العربي منعَ اللغة من التطور»... وإذا كان الدين ضد حركة الحياة، فإن طلال حيدر في هذه الحالة «ضد الدين».
كان الشعر المحكي يُسمَّى زجلاً، حتى كتبه سعيد عقل وميشال طراد، ولهما تحسب «شجاعة العبور من الفصحى إلى المحكية» التي فيها خطورة الخروج من الشعر، والوقوع في الكلام. حيدر يرى نفسه قادماً من الشعر... وليس قادماً من الشعر العربي. رهانه على اللغة الأقرب للحياة والإنسان، دخل من باب عقل وطراد حقاً، لكنّ عينه كانت «على الباب اللي ما حدا فتحو قبلي».
يتحدّث عن مكان اسمه بساتين الشعر كأنّه حقيقة، يحدّها من الشمال السماء ومن الجنوب السماوات. فيها التقى بحياته كما أرادها وبأصدقاء عمره: فيروز «عشرة العمر» التي غنّت له قصائد عدة، وعاصي وسهر الليالي على سطح فندق «بالميرا» في بعلبك حتى مطلع الفجر، في سنوات المهرجان الذهبية. «عاصي اخترع لبنان من الوهم، وفيروز حوّلته إلى حقيقة».
في الفندق نفسه، التقى حيدر الشاعر الفرنسي جان كوكتو (1960) الذي أقام مدة هناك. كما التقى أراغون بعد سنوات «هؤلاء هم أصحابنا، هؤلاء مَن كنّا نقضي أوقاتنا معهم ونسامرهم».
الآن، زياد الرحبانيّ هو الصديق المقرّب والحميم، «ما في حدا بيقدر يوصلني لمطارحي متل زياد». يتذكر اجتياح بيروت الذي ظل فيه الصديقان معاً، تحت القصف يركض حيدر من الظريف إلى البريستول ليجلب الفودكا والثلج، «كان عيد ميلادي» يوضح.
ولا ينسى أن يتذكّر أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام وفيلمون وهبة في سهرات فندق أوتيل «بوريفاج» في مصر. الجلسات التي يصفها بأنّها لا تُذكر للصحافة لما فيها من «مجون وخلاعة». لكن حين كان الفجر يطلع، كان الدخان يتصاعد من السهرات لـ«يعلن انتخاب الفرح».
البهجة، الشعر، والأصحاب، هذه هي مفردات يومه. أما المرأة فهاجس طلال المزواج، تزوج أكثر من أربع مرات (لا يحدد العدد). ومَن عاش معهن يزعم أنّهن أكثر من عدد سنوات عمره.
كانت المحبوبات سبباً في حضور بلاد بأكملها في قصيدة، مثلما هي مصر: «حبيت امرأة مصرية وتزوجتها. مصر بالنسبة إلي امرأة». في شعره إجمالاً، كان حضور المرأة كلّه ممثـــــــلاً في وجهها. وكلّما تقـــــدّم حيدر في العمر، صارت امرأته «شهية ومقدسة» لا يمكنه أن يراها إلاّ عاشقاً مثل أخنــــــاتون. «وجك متل رجعة ولد بعد الغياب/ وجك متل تل وعم تصرخ دياب/ يا عمر ما بيلحق يجي تيروح؟!/ وجك متل بيرق عزا من بعيد عم بيلوح». لا شيء يحدث فيه التحول أو يمثِّل فرقاً، يقول حيدر، لا الحياة ولا الموت. التحوّل في حياته كانت أسبابه دائماً مبذولة في العشق.


5 تواريخ

1937
الولادة في بعلبك

1960
التقى كوكتو في بعلبك

1979
غنّت له فيروز قصيدة «وحدن بيبقو» من ألحان زياد الرحباني

1998
صدور ديوانه الثاني «بياع الزمان» (دار الكتاب اللبناني)

1999
كتب مسرحية «إمارة من هالزمان» مع سعيد عقل