كيف تكون تبقى «شيوعياً جيّداً»


إنّه بلا شكّ من أبرز رموز جيل الستينيات في الأدب المصري، ومن أكثر أقرانه حرصاً على الاستقلاليّة عن المؤسسة بكل أشكالها. صاحب «تلك الرائحة» المسكون بنهم الكتابة، تجاوز السبعين ولمّا يتخلّ عن مثله السياسيّة والأخلاقيّة. جديده رواية بعنوان «القانون الفرنسي»

دينا حشمت
«فلسطين عربية» و«كفاية»: لافتتان صغيرتان على الباب تطمئنانك. لم تخطئ العنوان، ولم تصعد كل هذه الطوابق سدىً: أنت أمام شقة صنع الله إبراهيم البسيطة، العائمة في شمس الظهيرة ــــ تلك الساطعة دوماً في الأدوار الأخيرة. يفتح لي الباب، يعاتبني ضاحكاً على تأخري، وأدافع عن نفسي متعلّلة بضياعي في شوارع مصر الجديدة.
يرى صاحب «ذات» (1992) أن «الانضباط في المواعيد» من المبادئ التي ورثها عن تجربته مناضلاً شيوعياً في خمسينيات القرن الماضي، إلى جانب «عدم الجري وراء المظاهر» و«التقشّف في الحياة» و«احترام المرأة»: كنا نوزّع كتاباً اسمه «كيف تكون شيوعياً جيّداً». ويضحك.
اختار صنع الله إبراهيم ترك العمل السياسي عند خروجه من المعتقل سنة 1964، بعد خمس سنوات قاسية في سجن الواحات، استخدمها مادة لروايته الأولى، «تلك الرائحة» (1966). خرج الشيوعيون من المعتقل مع حل الحزب الشيوعي المصري: «في الواحات، كنّا نؤيد التأميمات ومناهضة الإمبريالية. كنا نؤيد عبد الناصر تأييداً كاملاً، ونريد أن نصبح جنوداً في الاتّحاد الاشتراكي... لكنّه لم يكن ليسمح لجنود بأن يتحولوا إلى جنرالات». عُيّن أغلب الرفاق القدماء في وظائف في الصحف القومية، وعمل صنع الله محرراً في وكالة أنباء الشرق الأوسط في 1966، لمدة عامين، قبل أن يسافر إلى ألمانيا الشرقية وموسكو، ودام ترحاله ست سنوات.
ترك العمل السياسي، لكنّه لم يتخلّ عن اعتقاده بأنّه لا بد من أن يظل «شيوعياً جيداً». صاحب «وردة» (2000)، الرواية الجميلة التي أحيت ذكرى نساء ثوريات حملن السلاح في ظُفار (عُمان) في نهاية الستينيات، احتفظ بالكثير من مثاليته بلا شك. قد يبدو ذلك غريباً لمن انغمس في عالمه الروائي «الانهزامي» أغلب الأحيان، كما يقول. «ذات» على رأي ريشار جاكمون الذي ترجم أغلب أعماله إلى الفرنسية، إحدى «قمم مسيرته الفنية»، نجحت في تحقيق «ثنائية الالتزام والإبداع الساحرة»، وهي تحكي قصة امرأة تعيسة تعيش إحباط الطبقة الوسطى القاهرية في ظل الفساد المستشري. «شرف» (1997) اسم شاب عاطل يدخل السجن بعدما قتل سائحاً حاول هتك عرضه ويتعرّض فيه للاغتصاب. في «العمامة والقبعة» (2008)، يروي صنع الله الحملة الفرنسية على مصر (1798 ــــ 1801)، ليرد على من لا يذكر منها سوى المطبعة «وينسى المدفع». لكنه يجعل أحد أبطاله يفتتن، في خضم مقاومة المحتل، بامرأة فرنسية. حتى قبل هذه الروايات المتأخرة، كان اليأس إحدى سمات شخصياته في «نجمة أغسطس» (1974) و«بيروت بيروت» (1984)، شخصيات تلاشت أحلامها الثورية لتصبح مجرد شاهدة على واقع مرير.
إنه هوس الحقيقة، هوس التعبير الصادق عن مشاعر حقيقية، عن واقع معيش. هذا ما علّمه السجن. ليس هناك من بطل مطلق، و«الشيوعي الجيد» كامل الأوصاف لا يحيا إلا في كتيّبات الصين الماوية: «مش ممكن يكون فيه إنسان مئة في المئة شيوعي»، يقول. في «يوميات الواحات» (2005)، وهو أقرب إلى السيرة الذاتية منه إلى الرواية، يصف صنع الله عاملاً ماركسياً «دفع 13 عاماً من عمره في السجن، لكنه ظلّ حريصاً على صندوق صغير يحتوي على حلاوة وعسل وطحينة، وشاي إنكليزي، فيما لم تكن هذه الأشياء تتوافر لغيره من المعتقلين». هذا بعض ما حوّل صنع الله إبراهيم من «ثوري محترف» ترك دراسة القانون من أجل العمل السياسي، إلى روائي متفرّغ، رفض كل عمل أو منصب قد يحيد به عن مسيرته.
أصبح التدقيق في تفاصيل الحياة اليومية الروتينية، المبتذلة، المقزّزة أحياناً، بصمته في الكتابة. حتى طفولته لم تنج من أسلوبه التشريحي في «التلصص» (2007) التي تمثّل على رأي المترجم ريشار جاكمون «عودة ناجحة إلى نموذج أدبي فرضه مع «تلك الرائحة» وسيرةٌ ذاتية متخيلة ذات قوة استثنائية».
«يتلصّص» ولد صغير لم يتجاوز العشر سنوات على أبيه الموظف الستيني الذي يحاول أن يدبّر احتياجاتهما بمرتّبه الضئيل؛ الولد ابن زواج ثانٍ، والأم اختفت. يصف الراوي أدق تفاصيل حياتهما معاً، رحلاتهما اليومية من الجزار إلى اللبّان، ثم إلى الخردواتي، طقس الطبخ والاستحمام في مياه الحوض، والبحث عن القمل في الفانيلات، واستحضار الجن: «الفرق في السن بينه وبيني كان كبيراً جداً؛ كانت علاقة ما بين جد وحفيد. كنّا أصحاباً، نتكلم، ونلعب طاولة. لعب دوراً مهماً جداً في وعيي. كان مثقفاً، يقرأ كثيراً، وكان حكّاءً عظيماً. وكان متفتحاً أيضاً، يرى أنه لا بد أن نحكّم عقلنا في كل شيء، حتى في الدين». وإذا كان صنع الله يرى أن السجن كان له بمثابة «الجامعة»... فهو يرى أن أباه كان «المدرسة».
اليوم، وقد أصبح الولد الصغير في سن أبيه، انتابه «نهم العمل»: «ليس لي غير العمل، في مثل سني». يكتب كثيراً، ويُصدر رواية جديدة كل سنة تقريباً. عمله الجديد «القانون الفرنسي» يتطرّق إلى قانون فرنسي وضع في 2005 بهدف «رد الاعتبار إلى الاستعمار»: «بعد «العمامة والقبعة»، شعرت بأن هناك جزءاً لا بد من أن يُستكمل، وكانت هناك أخبار تظاهرات الضواحي في 2005. رد اعتبار إلى الاستعمار بعد تاريخ طويل من الإدانة أمر غير مقبول».
الكتابة هي طريقة صنع الله إبراهيم المُثلى للتشابك مع الواقع، لكنها ليست الوحيدة؛ فهو عضو مؤسس في «المجموعة المصرية لمناهضة العولمة» وحركة «كفاية». وكلّما دعي إلى مؤتمر (خصوصاً بعد موجة الحماسة التي أثارها رفضه «جائزة الرواية العربيّة» في عام 2003، «لأنها تمنح من حكومة لا تملك أيّة صدقية»)، ينتهز الفرصة للدفاع عن قيم «الشيوعي الجيد». يحكي مثلاً كيف يتحمّل جزءاً مهماً من الأعباء المنزلية، كما لو أراد بذلك أن يعبّر عن عرفانه لزوجته، الواقفة دوماً إلى جنبه، التي كانت توزّع بيانه يوم رفضه الجائزة. صنع الله إبراهيم ليس من هؤلاء المثقفين الثوريين الذين يقوم شرخ هائل بين تصرفاتهم اليومية وما يرونه صالحاً لكل البشر.


5 تواريخ

1937
الولادة في القاهرة

1959
الدخول إلى المعتقل حيث بقي خمس سنوات

1966
صدور روايته الأولى «تلك الرائحة»

1993
جائزة سلطان العويس

2007
صدور «التلصّص»