بيار أبي صعبكان ذلك في بداية التسعينيات، بعدما تواطأت الطبقة السياسيّة على «إعلان» السلام الأهلي (القسري) في لبنان، واستسلم البلد لخدر لذيذ عنوانه «إعادة الإعمار». كان الجميع يريد أن ينسى الحرب، ويلغيها من الذاكرة... وتحالف القمع والفساد لإدخال البلد في زمن «الجمهوريّة الثانية». يومها حققت سينمائيّة ومنتجة اسمها أولغا نقاش فيلماً وثائقيّاً جريئاً ومثيراً للجدل بعنوان «لبنان قطعة قطعة» (1994). يستعيد الشريط ذكريات الحرب الأليمة وانقساماتها، بلغة مباشرة، فجّة، لا تعرف خبثاً ولا تنميقاً من النوع الذي تقتضيه أدبيات «التعايش» الوطني. وكان أن منع الفيلم وتحوّل قضيّة وطنيّة. حجّة الرقيب جاءت يومذاك في منتهى البساطة: الفيلم يثير النعرات ويتهدّد السلم الأهلي! التتمّة يعرفها الجميع... وصولاً إلى الدوحة 2008.
بالأمس أنجز سينمائي شاب اسمه سيمون الهبر وثائقيّاً إبداعيّاً بعنوان «سمعان بالضيعة»، يعود إلى تلك الذاكرة المثخنة التي لم تلتئم جراحها، انطلاقاً من قصّة عائلته وقريته في «حرب الجبل». من المفترض أن يعرض الشريط في افتتاح «أيام بيروت السينمائيّة» بعد ثلاثة أيّام. لكن الرقيب متردّد في منحه تأشيرة العرض. ويقال إنّه يطلب حذف بعض الدقائق التي تكشف عن وقائع من الأفضل تجنّبها... خوفاً من تحريك النعرات وإثارة الفتنة الأهليّة!
غريب أمر هذه الفتنة التي يلاحقنا طيفها الدامي عبر الأجيال. هناك آلة ضخمة تعمل بإمكانات هائلة على إنتاج كل الظروف الملائمة لاستمرار تلك «الفتنة» واستثمارها: من خطابات السياسيين إلى التعبئة الإعلاميّة المنهجيّة في زمن الفضائيات... مروراً بالمدرسة والجامعة والقوانين الانتخابيّة والأحوال الشخصيّة. وليس من يعترض. أما حين يتدخّل الفنّ، ليحاول أن يفهم، ليغور في الجراح ـــــ كما يفعل جيل سيمون الهبر ـــــ ضمن مشروع «أركيولوجي» صحّي وضروري... فإن الرقيب يصاب بالذعر ويتحسّس مقصّه! الفن لا يثير النعرات، سيّدي الرقيب، والثقافة لا تحرّض على الفتن. الفن هو الاستقرار الأهلي، والثقافة هي المختبر الذي نفحص فيه ذاكرتنا الجماعيّة، المحاصرة، المخدّرة، المضلّلة، الممنوعة... وهي على الأرجح آخر ما بقي لنا من هذا الوطن. فيها بذور انهياره النهائي، وبذور إعادة بنائه على أسس ثابتة ومتينة ومستقرّة.