قاسم عزّ الدين *إن الأزمة العالمية الراهنة، كانت مرئية ومنظورة، قبل عقد على الأقل، وبالتحديد منذ سياتل عام 1999، عندما صدّت حركة المناهضة العالمية، مَن يسمّون أنفسهم «أسياد العالم»، وهي ما زالت تلاحقهم في دافوس وفي قمم «السبع الكبار» والقمم الأخرى، وكذلك في المنتديات الاجتماعية الإقليمية والعالمية، وهي ما زالت ترفع شعار «عالم آخر ممكن». وقد أنتجت هذه الحركة المستمرة أهم كبار الاقتصاديين العالميين المنشقين عن المؤسسات الدولية و«السبع الكبار»، منهم جوزيف ستينغليز وجان زيغلر وريكاردو بيترللا وأندرويتي رولي... وغيرهم العشرات، كما أنتجت خبراء ميدانيين انطلقوا في عملية إعادة بناء أكثر عدلاً وإنسانية منهم إريك توسّان الذي بدأ مع فريق كبير بإنشاء «بنك الجنوب» في أميركا الجنوبية، وفاندانا شيفا التي أعادت بناء «اقتصاد صغار المزارعين» في الهند.
وفي واقع الأمر، كانت الأزمة العالمية منظورة ومرئية من النيوليبراليين أنفسهم، منذ السجال الأعرج بين مدرسة شيكاغو والمدرسة الكينزيّة، في أوائل القرن الماضي، حين بشّر فون هايك، وهو الأب الروحي لمارغريت تاتشر، بـ«الأزمات التي تُفضي إلى حلول فضلى على المدى الأبعد»، وقد طبّق ميلتون فريدمان مقولته في تشيلي بمواجهة الليندي، ثم في قصر بينوشيه، وهي الفلسفة النيوليبرالية ذاتها التي لخّصتها رايس بعبارة «الفوضى البنّاءة»، وأدت إلى اعتراض الكونغرس على ضخّ 700 مليار دولار في الجلسة الأولى، «لأسباب عقائدية». لكن ما هي الأسباب الموجبة؟
يمكن التبحّر في وصف الأزمة المالية الراهنة، وسوء إدارتها المدفوعة بالجشع، لكن الأزمة المالية هي واجهة إدارة النُظُم، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وهي في الوقت نفسه نتيجة هذه النُظُم. فالكتلة المالية العالمية المأزومة هي نفسها تراكم رأس مال، لم يعد يجد «أسواقاً طبيعية» في الاقتصاد الحقيقي والثروة البشرية والاجتماعية... الأمر الذي أدى إلى أن تسهّل له الطبقة السياسية عمله ومروره، وأن تطلق حريته التامة في البورصات ومصارف الاستثمار والمصارف التجارية والقروض، وفي إزالة كل العوائق، من الحقوق الاجتماعية الطبيعية والمكتسبة، وأيضاً في الغزو العسكري والاحتلال و«مكافحة الإرهاب». فرأس المال الكبير يمشي بحرية، إنما بحماية الجندي والمبشّر.
الأزمة العالمية تضرب واجهة نظام الربح الأقصى، لكنها عملياً تضرب عمق النُظُم الليبرالية التي ولّدت رأس المال المالي. وهي حصيلة أزمة النظام الرأسمالي في إدارة الاقتصاد الحقيقي، وفي حرية رأس المال على حساب الحقوق الاجتماعية، وكذلك حصيلة فشل فتح الأسواق بالحروب والاحتلال. لكن أزمة النظام الرأسمالي لا تعني بالضرورة انهيار الرأسمالية أو العودة «إلى الوراء» باتجاه الكينزية على سبيل المثال، فذلك دونه صراعات كبرى بين قوى بشرية مقابل قوى بشرية أخرى. وانهيار الرأسمالية لا يتوقف على أزماتها، بل يتوقف على القوى المقابلة لها.
* كاتب لبناني