ساحة كنيسة القيامة في القدس مكتظة بالسيّاح القادمين من كل أقطاب الأرض. الكل يتحولون إليها لالتماس البركة، ولكنهم غير مدركين أن حياتهم قد تكون في خطر. فدير السلطان المشيد على سقف الكنيسة قد ينهار في أي لحظة
القدس المحتلة ــ فراس خطيب
تتنازع الكنيستان القبطية والإثيوبية ملكية دير السلطان في كنيسة القيامة في القدس القديمة. تنازع يعيق أعمال ترميم كانت الحكومة الإسرائيلية قد «تبرعت» بتمويلها على أنها «طرف حيادي في النزاع». ولكن، لتبقى الأمور عالقة الى أجلٍ غير مسمّى، فقد اشترطت السلطات الإسرائيلية على الكنيستين التوافق وحل الاختلاف بينهما على ملكية الكنيسة. الخلاف بين الكنيستين يعود إلى أكثر من ثلاثة عقود. فالكنيسة القبطية تعتبر نفسها مالكة الدير الشرعية، لأن «السلطان صلاح الدين الأيّوبي أهداها إياه بعدما استعاده من الصليبيين لاستعماله مساكن للعائلات القبطية التي كانت تسكن القدس». ولتأكيد ذلك تستعمل تسمية دير السلطان لتأكيد ملكيته التاريخية.
أما الكنيسة الإثيوبية الأرثوذكسية، فهي تتّخذ المبنى مقراً لها منذ عام 1668. ويقول أحد الرهبان الأقباط «في تلك السنة، فقدت الكنيسة الإثيوبية ممتلكاتها داخل كنيسة القيامة وخارجها، بعدما عجزت عن دفع الضرائب المستحقّة عليها للسلطنة العثمانية، عندئذٍ قامت فعاليات كل من كنائس الأرمن الأرثوذكس والكاثوليك بأخذ موافقة الباب العالي لدفع الضرائب المستحقّة، فوافق العثمانيون، وأُخرجت الكنيسة الإثيوبية من مقرها في كنيسة القيامة. فما كان من الرهبان الإثيوبيين إلا أن التجأوا إلى الكنيسة القبطية التي يُعتبرون من أتباعها. فأسكنهم المطران في دير السلطان ضيوفاً. ولكنهم قاموا بمشاغبات كثيرة منذ ذلك الحين من أجل الاستيلاء على المكان».
والدير يرتفع إلى طابقين، مدخله الأساسي يتمّم الكنيسة الصغيرة التابعة للكنيسة الأرثوذكسية، وهي ملاصقة لكنيسة القيامة. يتوسط الكنيسة درج يؤدي إلى الطابق الثاني، أي باحة الدير الذي تتّخذه الكنيسة الإثيوبية الأرثوذكسية مقراً لها ومقاماً لرهبانها الذين يتوزّعون على 26 غرفة.
الدير في حالة تلف تدريجيّ متقدم جداً. فالجدران متصدّعة، والرطوبة تأكل الزوايا، وهناك خلل في خطوط الكهرباء والماء. وهذا ما دفع الكنيسة الإثيوبية إلى استدعاء مهندس إسرائيلي مختص بالأبنية التاريخية لتقديم تقرير بوضع الدير. فكتب «أن وضع المبنى خطير للغاية، ويعرّض حياة الرهبان وآلاف السيّاح والمصلين للخطر. كما أن أي تفكك لجدرانه سيؤدي إلى ضرر كبير لكنيسة القيامة المقامة أساساتها في أسفله».
هذه التوصية نشرت في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، وردّت الكنيسة القبطية عليها عبر «الأخبار»، فقال أحد رهبانها إن التحقيق «بعيد عن الحقيقة». فالمباني المذكورة «بعيدة عن مبنى كنيسة القيامة. ولكن أساقفة الكنيسة الأرثودوكسية يسعون إلى إقحام وضع كنيسة القيامة في الموضوع لإثارة بلبلة في الإعلام، فمن دون إدخال كنيسة القيامة لن يلتفت أحد إليهم».
وترميم المبنى يقع اليوم في صلب خلاف الكنيستين. فالكنيسة الإثيوبية تطالب بحق ترميم المكان، وتتكفل به، فيما تعتبر الكنيسة القبطية القرار بمثابة تطفّل على ممتلكاتها. ويقول أحد الرهبان: «الإثيوبيون يريدون ترميمه وحدهم لإثبات ملكيتهم له ونحن نرفض ذلك، لأن المكان ببساطة ملكنا، ولدينا وثائق تثبت ملكيتنا من فترة العثمانيين والبريطانيين».
بين المالك التاريخي والمالك الحالي خلاف كان القضاء الإسرائيلي قد بتّه منذ عام 1970، وأُعطيت الملكية للكنيسة الإثيوبية. وفي شهر نيسان من تلك السنة، دخلت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إلى دير السلطان لتطبيق القرار. فقامت بتبديل أقفال الكنائس وغرف الدير واستبدلت الأيقونات القبطية بالإثيوبية، وأبقت للكنيسة القبطية الحق بوجود دائم لراهب من أتباعها في الدير. ولكن الكنيسة القبطية جابهت القرار بالرفض، وتوجّهت إلى المحكمة الإسرائيلية العليا في العام نفسه بدعوى أخرى، وصدر حكم آخر في السادس عشر من آذار 1971 يقضي بملكية الكنيسة القبطية للدير.
قرار لا يزال القضاء الإسرائيلي حتى اليوم يماطل في بتّه، بعدما قدمت الكنيسة الإثيوبية طعناً، فألّفت الحكومة الإسرائيلية لجنة لتنفيذ القرار، إلا أن القرار لم ينفّذ: في كل مرة يجدّدون عمل اللجنة من دون التوصل إلى حل.
واليوم، لا يبدو أن الأمور تتّجه إلى حل ممكن، رغم اقتراب موسم الشتاء والتصدّع الهائل الذي يحيط بجدران المبنى، والخطر المحدق على أحد أهم الصروح الدينية في مدينة القدس القديمة. خلاف لا يستطيع رجال الدين حلّه، ما دفع بالمطران الإثيوبي إلى التوجّه برسالة إلى وزير الداخلية الإسرائيلية، آفي ديختر، قائلاً «هناك خلافات بيننا وبين الكنيسة القبطية على حقنا في الموقع، ولكن هذا هو سبب توجّهنا للسلطات الإسرائيلية على أنها طرف حيادي، من أجل إجراء الترميمات المطلوبة». طلب جاء الرد عليه بمثابة صدى في الحلقة الفارغة: «اتّفقوا... ونحن نرمّم».

كنيسة القيامة: أهم صرح مسيحي تاريخياً



في وسط الحي المسيحي في مدينة القدس القديمة، ترتفع كنيسة القيامة، التي تعتبر أهم صرح تاريخي على الإطلاق. فالتقاليد تقول إن الكنيسة مبنية في موقع الجلجلة، أي الصخرة التي صُلب عليها السيد المسيح، وهي تحوي المكان الذي دفن فيه، واسمه «القبر المقدس». وقد سمّي الصرح «كنيسة القيامة» لأنه، بحسب العقيدة المسيحية، في اليوم الثالث قام المسيح من بين الأموات.
وتاريخياً «تتصارع» كل الكنائس في العالم لإبقاء مكان لنفسها قرب صرح الكنيسة، التي تقع تحت رعاية جميع كنائس الروم الأرثوذكس، وأيضاً الأقباط والسريان. ولكل طائفة قسم من الكنيسة، تحرص على المحافظة عليه.وأول كنيسة شيّدت فوق قبر المسيح هي كنيسة بازيليك بيزنطية، التي شيّدها الإمبرطور جوستينيوس بناءً على طلب من والدته القديسة هيلانة. وفي القرن الثامن ميلادي، شيّدت كنيسة الجلجلة في الموقع الذي قرر رجال الدين حينها أنه موقع الصخرة التي رُفع فوقها صليب
المسيح.
وتجدر الإشارة الى أن الفتح الإسلامي عام 638 م لم يمسّ أياً من المراكز الدينية المسيحية بسوء. وكان عمر بن الخطاب قد زار كنيسة الجلجلة بعد تسلّمه مفاتيح بيت المقدس، وحين خطب بأهل القدس قال لهم «لكم ما لنا وعليكم ما علينا». ودعاه البطريرك، صفرونيوس، لتفقّد كنيسة القيامة، فلبى دعوته، وأدركته الصلاة وهو فيها، فتلفّت نحو البطريرك وقال له أين أصلّي، فقال «مكانك صلِّ» فقال: «ما كان لعمر أن يصلي في كنيسة القيامة فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلّى عمر ويبنون عليه مسجداً». وابتعد عنها رمية حجر وفرش عباءته وصلّى، وجاء المسلمون من بعده وبنوا على ذلك المكان المسجد المسمى بمسجد عمر.
وكان لدخول الصليبيين إلى المدينة العامل الأقوى في تغيّر شكلها العمراني، حيث قرروا إعادة بناء الكنائس القديمة وإنشاء مبنى ضخم، يحوي داخله جميع الأبنية الأساسية: كنيسة الجلجلة وقبر المسيح. فكانت كنيسة القيامة حيث هي حالياً.