د. نمر فريحةمنذ عشرات السنوات، قطع بعض الأهالي الأشجار البرية من سنديان وشوح وزعرور برّي وغيرها، التي كانت تغطي معظم الجبل المواجه لضيعتنا. لقد اصطحبوا الفؤوس وراحوا ينهالون على الأشجار، ولم يرحموا حتى الشجيرات الوادعة التي كانت تتلطى بظل «أمهاتها» من حر الشمس. كان موسم «حلاقة» بكل معنى الكلمة! احتج من احتج، وشتم من شتم، لكن الحقيقة لم تتغير من ذاك الوقت: أديم الجبل «نظيف» من أية شجرة ومن أية نبتةخضراء. لكن ما يجدر ذكره هو أن من «حطّب» الأشجار استخدم كل مكوّن فيها جيداً: الأوراق التي يبست، صارت وقوداً للخبز؛ والأغصان كانت توقد تحت «طشت» الغسيل؛ والجذوع تحولت حطباً ارتاح داخل «الوجاق» في فصل الشتاء.
أسترجعُ ما حدث في ضيعتنا وأنا أشاهد بألم احتراق الأحراج في قرى الشوف في الحلقة ما قبل الأخيرة من مسلسل «لنحرق لبنان» أو «دعوه يحترق» أو أي اسم يليق بـ«لبنان الأخضر». وبما أن كل أشجار لبنان برسم الحريق، فلماذا لا تدعو حكومتنا المواطنين الذين يشتكون من غلاء المازوت مع إطلالة كل شتاء إلى الاستعانة بما زرعه الأجداد وأنبتته الطبيعة، فيأخذوا الفؤوس (ولن أقترح المناشير الكهربائية نظراً لغلاء البنزين) ويقلدوا ما حصل في ضيعتنا، وسيرى الجميع كم سينخفض مستوى النقّ، وفي الوقت ذاته سيكون التوفير هائلاً.
كما أن منظر الصخر أفضل بكثير من منظر الأرض المحروقة. ودعوني أستعرض ذلك حسابياً و«شعورياً» لأقنع من بيده القرار.
في ضيعتنا «فش البعض خلقه» ببعض الشتائم واللوم على من قطع الأشجار، وانتهى الموضوع ونسيه الناس لولا ذاكرتي العنيدة التي تجلب لي الألم كلما رأيت جبالاً مغطاة بأجمل ما خلق الله من أشجار لا نستأهلها، بينما جبل ضيعتنا أصبح «أقرع» منذ مدة طويلة.
أهالي ضيعتنا تنبأوا بما ستؤول إليه الأحراج في لبنان، فاستبقوا ظاهرة الحرائق المفتعلة، وطبقوا مثلهم الشعبي المفضل: «الشجرة اللي بدارك، إلك مش لجارك».
أهالي ضيعتنا لم يكلفوا موازنة الدولة قرشاً واحداً (لن أستعمل تعبير الدولار لأنه لم يكن معروفاً آنذاك) كثمن بنزين الطوافات، وأجرة رجال الإطفاء، وصيانة سيارات الدفاع المدني. كما لم يكلفوا القطاع الخاص أي مال، مثلاً وسائل الإعلام التي تبعث مراسليها لتغطية الحدث المتكرر.
وبفعلهم ذاك آنذاك، لم يحترق متطوع، أو منزل، أو محطة وقود. والأهم أنهم لم يتركوا الأشجار تحترق وتلوث البيئة بدخانها الرمادي الكثيف الذي كان سيتسبب في حالات اختناق.
وكذلك لم يسبّبوا للمشاهدين «وجع قلب» من رؤية أشجار خضراء، شامخة تعانق السماء، عمرها عشرات أو مئات السنين تلتهمها النيران بثوان معدودة، فتهوي على ركبتيها لا سجوداً للخالق، بل انقياداً ومذلة لإهمال عبيده أو لأطماعهم.
واليوم، لبنان ذو الخمسة وأربعين مليار دولار ديناً، لم يخصص منها صفراً فاصل كذا صفراً واحداً لشراء طائرة واحدة لإطفاء الحرائق (قد تكفي واحدة لأنها تستطيع إطفاء الحريق في بدايته لا بعد أن يمتد ليشمل مساحات شاسعة).
لكن... يا الله! كيف لنا أن نسدد هذا الرقم بعد الأصفار؟ وتجنباً للإفلاس المفترض، فلنقطع ما بقي من جذوع الأشجار المحروقة ونصنع منها فحماً للأراكيل التي كانت وعادت جزءاً من تراثنا، ولنصفق «للمأركلجية». أليس هذا دورنا؟