بدر إبراهيم *لا يزال السجال مستمراً في السعودية وخارجها منذ أكثر من شهر ونصف بشأن عدد من الفتاوى والآراء التي عبّرت عنها مجموعة من الشيوخ السلفيين السعوديين في وسائل الإعلام. وتتراوح ردود الفعل بين تأييدٍ يأخذ طابعاً تفسيرياً وتبريرياً، ومعارضةٍ تصل إلى حد التهكّم، وليس جديداً في الآونة الأخيرة تناول مواضيع تخص رجال الدين ورجال «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في السعودية، وإثارة الجدل حول تصريحاتهم وسلوكياتهم، إلا أن الفتاوى التي انهمرت أخيراً بحاجة إلى وقفة تأمل. رئيس مجلس القضاء الأعلى في السعودية الشيخ صالح اللحيدان أفتى ضمن برنامج إذاعي بقتل أصحاب القنوات الفضائية، ووَصَفهم بالمفسدين في الأرض. وعندما تصدر فتوى كهذه من رئيس مجلس القضاء الأعلى، يمكن ببساطة تصوّر حال القضاء: الاتهامات جاهزة والأحكام أيضاً، ولا حاجة للدفاع عن النفس أو مجرد النقاش في الأمر، لأن هناك «حقيقة إلهية» يعبّر عنها القضاة، ومناقشتها هو اعتراض على الله!
طوال السنوات الأخيرة، كانت الأحكام التعسفية بالسجن ومئات الجلدات تنزل على رؤوس العديدين كالمطر، حيث لا قوانين واضحة ولا مرجعية غير مرجعية القضاة الأيديولوجية، واضطرت القيادة السعودية للتدخل أكثر من مرة من أجل إلغاء بعض تلك الأحكام التي أثير حولها الجدل في الإعلام، وكان ولا يزال الفكر الذي أنتج هذه الفتوى ومثيلاتها يُؤَمّن استمرارية التعسف القضائي.
وبعد فتوى الشيخ اللحيدان، جاءت فتوى أخرى من الشيخ ابن جبرين بوجوب جلد وسجن الصحافيين والكُتّاب الذين ينتقدون رجال الدين وفصلهم من أعمالهم، وتبدو هذه الفتوى منسجمة مع سابقتها في مهاجمة المختلفين واستعمال الفتوى كحكم قضائي يُخرسهم ويردعهم، غير أنها توضح أيضاً محاولة بعض رجال الدين إضفاء قداسة على أنفسهم وآرائهم، واعتبار انتقادهم أو التعبير عن أفكار مختلفة عن أفكارهم موجباً للعقوبة، بما يُثَبِّت هيمنة الفكر القروسطي. وتكريسُ هذه الفكرة يُمكّن هؤلاء من قول ما يشاؤون من دون محاسبة، وبالتالي يُمَكّنهم من تطويع الناس على القبول بأفكارهم مهما كانت.
أما فتوى «ميكي ماوس»، فجاءت لتزيد البلبلة، والشيخ المنجد قال بالحرف إن ميكي يجب أن يُقتل في الحل والحرم. وبدا واضحاً أن الهجوم على المختلفين لم يقتصر على الشخصيات الواقعية بل تعداه إلى الشخصيات الخيالية، وهنا ثارت التعليقات الساخرة في الإعلام الغربي وبدأت موجة جديدة من الجدل.
يمكن القول إنّ هناك استسهالاً لإطلاق الفتاوى في السعودية وخارجها أيضاً، ويمكن الحديث عن طابعٍ إقصائي لهذه الفتاوى واتجاه المفتين إلى صغائر الأمور وتركهم للأمور الكبيرة والمصيرية التي تستدعي موقفاً شجاعاً وصادقاً، إلا أنه يجب التنبه إلى أن هذه الفتاوى تعكس في حقيقتها ذعر التيار السلفي من انتشار أفكار مخالفة لتوجهاته وخوفه على مستقبل امتيازاته ونفوذه في السعودية.
إنّ ما يجمع الفتاوى الثلاث (وما يجمعها كثير بالطبع) هو انطلاقها من فكر يعاني تهديد مجموعة من النماذج المخالفة للنموذج الذي يريده أن يسود المجتمع، فالقنوات الفضائية تقدم ثقافة ـــ بغض النظر عن كونها استهلاكية وممجوجة في الغالب ـــ تتعارض مع ثقافة التيار المتشدد ونظرته لأمور الحياة وللفنون على اختلافها، وتساهم في إفساد المجتمع. والكُتّاب والصحافيّون على قلة عددهم وحيلتهم، يقدّمون آراءً مختلفة مع التشدد الديني «تفسد» عقول الناس وتخلخل البنية العقائدية التي يقوم عليها المجتمع في نظر هذا التيار، و«ميكي ماوس» وأشباهه يقدمون نموذجاً للأطفال، لا يرضي هذا التيار ويمثّل خطراً على القيم، حتى وإن كان مجرد رسوم متحركة!
هذه الشراسة في الهجوم، هي في الحقيقة دفاع عن المكتسبات والنفوذ. والنفوذ قائم حتى الآن في العديد من مؤسسات الدولة، بما يسمح بالذهاب بعيداً في توجيه الضربات للخصوم والقيام أيضاً بشن هجمات «استباقية» على كل ما من شأنه تغيير المعادلة القائمة وتحجيم نفوذ المتشددين. لقد باتت الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى لاستصدار قوانين رادعة تحمي المختلفين مع هذا التيار المتشدد (على تنوعهم واختلافهم أيضاً) من البطش والإرهاب الفكري الممارس عليهم، وهو ما سيمهّد لكسر الأحادية الفكرية السائدة في البلاد، ويمنح فرصة أكبر للجميع للتعبير عن آرائهم دون خوف.
إنّ الأزمة أكبر من فتوى تثير جدلاً في الإعلام. إنها أزمة فكر غير قادر على التكيف مع المتغيرات من حوله ولا على تقبل وجود مختلفين معه، وهو يعيش حالة من الذهول والغضب من بروز أصوات منافسة.
لقد أنتج هذا الفكر العنيف الإرهاب وصدّره للعالم، وما لم تحصل مراجعة حقيقية لهذا الفكر ومواجهة سيل فتاوى العنف، فسيكون العالم على موعد مع المزيد من الانتحاريين والسيارات المفخخة.
* كاتب سعودي