حسن عثمانلفت نظري تقرير عن نخيل العراق، الذي أبرزه موقع «الجزيرة». وقد كنت أهيّئ قلمي للتعليق على هذا الموضوع المهمّ، لمحاولة إبرازه بصورة مقال قصير لأجل لفت الانتباه إلى هذه الكارثة التي أُضيفت إلى كوارث العراق وويلاته، ألا وهي زوال أشجار النخيل بنسبة كبيرة جداً. لكن ما تردّد أخيراً عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة عن هجرة إخواننا وأبناء أمتنا المسيحيين من العراق، ترك داخلي حزناً وقلقاً كبيرين، ورأيت أن أنقل تعليقي على هذه الكارثة الكبرى التي تصيب عراقنا خصوصاً، وأمتنا عموماً، حيث قُدِّر عدد المهاجرين المسيحيين منذ بداية الاحتلال للعراق عام 2003 بـ250 ألف مهاجر فيما العدد الكلّي يُقدر بنحو 850 ألف مسيحي.
يجب أن يعي الجميع، وبالأخص، أبناء أمتنا في العراق أنّ مسيحيي العراق هم جزء لا يتجزأ من تاريخ أمتنا وحاضرها، وقد مارسوا ولا يزالون دورهم في المجتمع لما فيه خدمته ورفعته، ولا يحق لأحد أن ينال منهم ويستنكر دورهم وتاريخهم في العراق، أو أن يحاول تهجيرهم أو دفعهم إلى شيء لا يطيقونه ولا يريدونه. ولهم كغيرهم من إخوانهم العراقيين الحق في الحياة الطبيعية وممارسة دورهم والقيام بأعمالهم الحياتية من دون أن يكون لهم شعور الأقلية في هذا المتحد الذي يعيشون فيه، وكذلك في بقية متحدات الأمة.
كنت أشعر بالقلق والحزن لدى سماعي بالهجرة (التي هي طوعية واختيارية) لشباب أمتنا من المسيحيين القاطنين في المنطقة الشرقية للمتحد الشامي شاملة كلاً من الحسكة والرقة ودير الزور، حيث انخفض عددهم بشكل ملحوظ.
إن استمرار هذه الهجرة سواء أكانت طوعية أم قسرية سوف يؤدي إلى فقدان نسيج أمتنا تدريجاً أحد خيوطه وألوانه التي نعتزّ ونفتخر بها. إنّ هذه الهجرة القسرية لعائلات بأكملها في العراق سببها أيدٍ هي في أكثر الأحيان غريبة عن أمتنا وقد يكون بعضها من أمتنا. وهذه الأيدي ــ بغضّ النظر عن اسمها ــ هي أيدٍ جاهلة حاقدة يعميها ويمتطيها التعصب الديني العنصري والعشائري، وهي فاقدة وبشكل كامل للتعصب الوطني.
إنّ القائمين على الحرب الأهلية في العراق والتصفية الدينية والعنصرية هدفهم قتل وإنهاء الحياة والروح الاجتماعية التي كانت سائدة بين مختلف متحدات الأمة حتى مجيء سايكس بيكو، حيث بتنا نشاهد الحالة نفسها في لبنان وفلسطين المحتلة. هذه الحياة القومية الاجتماعية التي كانت تمارس منذ آلاف السنين عبّرت عن نفسها وعن نجاحها وعن صحة مبدئها بالعديد من الانتصارات والإنجازات التاريخية على أصعدة مختلفة، وكانت ثمراتها عبارة عن حضارات متعددة، قمة في الرقي والإبداع التي كوّن مجموعها ما يعرف بالحضارة السورية، التي أشار إليها وأكدها ولأول مرة الفيلسوف والمفكر الاجتماعي انطون سعادة، الذي دعا إلى الارتباط والاعتزاز بها والسعي إلى تجديدها ومحاربة الجاهلين الحاقدين الذين يحاولون طمسها ودثرها وإنكار وجودها وعطائها، ويعطّلون حتى محاولة تكرارها.
إنّ المراد والهدف من هذا القتل المستمر في العراق، كما هي الحال في لبنان ليس إلّا محاولات لسلخ كل فرد عن وطنه، أي أن يدرك كل شخص أنه في الدرجة الأولى عربي مثلاً أو كردي أو آشوري أو كلداني... أي أن يكون له انتماؤه الإثني قبل انتمائه الوطني مما يجعل المجتمع في حالة من الجمود وكأنّ الجميع يتحرك في مكانه. والأمر نفسه يسري على الحالة الدينية، حيث يكون ولاء الشخص الأول محمدياً أو مسيحياً قبل الولاء الوطني، فيكون الوطن في هذه الحالة عُرضة للتوتّر والتدمير في أي لحظة.
إنّ تفوق الولاء الإثني أو الديني وحتى العشائري على الولاء الوطني يُفقد الأمة هيبتها وتتلاشى الروح الوطنية الاجتماعية، ورويداً رويداً، سيتفكّك المجتمع وتتقاسم هذه المجموعات الأرض لتنادي كل مجموعة فيما بعد أنا أمة.
إنّ التفكير والحقد الطائفي والمذهبي والإثني اللذين يمارسان في العراق، ليسا إلّا جهلاً بحق الحياة، وجهلاً بأبسط مبادئ الأديان، وجهلاً بالشريعة الإنسانية. هذا الشيء الذي يمارس هو بحق ثقافة منحطّة ساقطة، تروّجها مجموعات أو أفراد لا يفكرون أبعد من أنوفهم، ممتطين جياد الجهل واللاإنسانية، متستّرين بأزياءٍ ملائكية تخبّئ تحتها شياطين المكر والخداع والكذب والافتراء.
لقد خفّف من حزني الأسقف لويس ساكا بموقفه المعلن، حيث طلب من المسيحيين التمسك بوطنهم وعدم الانجرار للحرب، ورفع شعار السلم. أيضاً ندعو إخوتنا وأبناء أمتنا في العراق إلى التمسك بوطنهم، وإعلان الولاء الكامل له قبل أي شيء آخر. وندعوهم إلى أن لا يَدعوا الحاقدين الخونة والطامعين في أرضنا، يجرّونهم إلى الحرب ولا إلى الهجرة، وأن يؤكدوا للجّهال ومدّعي الدين أنّ العراق أرض لكل العراقيين، وأنه جزء لا يتجزأ من أمتنا الخالدة.
لا تفسحوا المجال ولا تفتحوا أبواباً للطائفية والمذهبية والعنصرية، فتمسّككم بأرضكم ووطنكم هو تمسك بحضارتكم وتاريخكم.
أيّها العراقيون تأكدوا وثقوا تمام الثقة بأنه إذا كان اليوم في العراق عدة طوائف وعدة مذاهب ففي المستقبل ستجدون المئات منها، ولكن في النهاية تبقى أرضكم واحدة وحياتكم واحدة ووطنكم واحداً، وأنتم جزء من هذه الأرض وهذا الوطن.
إنّ زوال الروح الاجتماعية القومية الواحدة بيننا يجعلنا خلف غيرنا من الأمم. يجعلنا ضعيفين في أرضنا، يائسين أمام أعدائنا، ويؤخّر إن لم يعطّل مسيرنا نحو تقدم وطننا بعدما كنا السبّاقين في بناء الحضارة، ذلك الزمان الذي كان فيه التعصب الوطني والولاء القومي الواحد هو التعصب السائد بين أبناء الأمة جميعاً.
أبناء أمتي في العراق عموماً، والمسيحيين خصوصاً: لقد هاجر الكثير من أمتنا خلال التاريخ الحديث، وأبرز أسباب الهجرة هي الحروب الأهلية التي حدثت فيها.