في بداية الحرب خاب ظنّه من اليسار، وفي نهايتها وصلت الخيبة إلى الدولة اللبنانيّة... بعد إقالته التعسّفيّة من رئاسة «المركز التربوي للبحوث والإنماء». هذا الاختصاصي في المناهج وطرائق التدريس، يرى أن بناء الوطن المستقرّ يبدأ من الذاكرة الجماعية... لكنّ نمر فريحة ليس نبيّاً في وطنه

جوان فرشخ بجالي
في شقته المتواضعة في بلونة، يجلس نمر فريحة سارداً مراحل حياته بنبرة تحاول إخفاء الحسرة والحزن. إذ إنّ طريق ابن كفر زبد طويلة لم تخلُ من المشقات والخيبات والطعن في الظهر. طالباً، كان يتقاسم ورفاقه المقاعد القليلة في المدرسة الرسمية لقريته. أحبَّ العلم والتربية فرأى نفسه مدرّساً. تقدّم إلى دار المعلمين ونجح، حتّى تبين له أن التعليم لا يلبّي طموحه. عندها قرر دخول الجامعة وقدم شهادة البكالوريا بطلب حرّ. نجح في الامتحانات الرسمية ووقع اختياره على كلية التربية التي كانت من أصعب الكليات في لبنان، حيث تُختار النخبة، لنقل 30 من أصل 400. لكنّ فريحة نجح، فخوّلته المنحة التي كانت تعطيها الدولة اللبنانية لطلاب الكلية التفرغ للعلم والقراءة. كانت تلك السنين في بيروت من أهم التجارب التي طبعت حياته.
في العاصمة، تعرّف نمر إلى الحياة، وتحوّل إلى الشاب المثقف المطلع. يتذكر الكافيتيريا حيث «حرب الإيديولوجيات والسياسة والتفاعل الفكري والثقافي». على كراسي تلك الكافتيريا، أبصر ابن كفر زبد «العالم» بتغيّراته، وفهم أنّ السياسة هي فكرٌ وليست زعامات سياسية موروثة. أُعجب بالفكر الماركسي ــــ اللينيني، ووجد نفسه في الحركة اليساريّة، حتى بدأت الحرب الأهلية. «حين رأيت بعض شباب اليسار ينزلقون إلى لعبة التمييز على الهويّة، فهمت أنّ اليسار في لبنان كذبة كبيرة. كنت كمن يبني لنفسه قصراً فتأتي القذيفة لتدمره من الداخل».
بدأت الخيبة تشق طريقها إلى حياة الشاب الذي استدرك أنّ العلم خلاصه. هكذا، حمل منحة الجامعة اللبنانية وتوجه إلى الولايات المتحدة حيث أنجز أطروحة الدكتوراه. «رغم أنني لم أكن أجيد الإنكليزية، رأيت أنها تجربة يجب خوضها. وحين كنت هناك، أخبرني رفيق لي بأن جامعة «ستانفورد» مهمة جداً في حقل التربية. فقررت أن أقدم طلب انتساب إليها، ضحك عليّ بعضهم متسائلين عن مقومات نجاحي». قُبل فريحة في «ستانفورد» وقدم فيها عام 1985 أطروحته الأولى من نوعها في لبنان بعنوان «تأثير الطائفية على التربية المواطنية في المدارس اللبنانية».
حصل فريحة على عرض من الجامعة الأميركية للتدريس، لكنّه رفضه، مشيراً إلى أن واجبه الوطني يناديه. قرار يراه اليوم بمثابة «بساطة في التفكير وإيمان بالمثاليات»، فعاد إلى لبنان عن طريق مطار الشام. التحق بالجامعة اللبنانية حيث حاضر حتى عام 1999، ثم عُيِّن رئيساً لـ«المركز التربوي للبحوث والإنماء». «يومها، أقيل رئيس المركز وترشحت للمنصب وقدمت بنفسي سيرتي الذاتية إلى رئاسة مجلس الوزراء، وعُينت بمرسوم رئاسي. وكنت تقدمت إلى المركز إيماناً مني بأنّ التربية هي بناء الإنسان، لا تكون بحشو عقل الولد بمئات المواد العلمية». بدأ فريحة العمل في المركز لتأمين الكتاب المدرسي وفق المناهج الجديدة، وعلى تدريب المعلمين حتى على تعليم الأولاد على تقنيات حل النزاع.
«أؤمن بأنّ كتاب التاريخ كفيل بتوحيد اللبنانين. فهو ما يبني الذاكرة الجماعية لدى الأجيال، وهذا ما نفتقده في لبنان». هكذا، كان العمل على كتاب التاريخ الذي أنجزه بأكمله من المراحل الابتدائية حتى الصفوف الثانوية. كتاب يشمل تاريخ لبنان من فترة ما قبل العصور حتى سنة 2000. «أرّختُ الحرب اللبنانية بأحداثها من دون عواطف وأحكام، لكي يؤهل هذا الكتاب جيلاً لا يعيد الخطأ. كتاب تاريخ موحد لـ12 صفاً، كنت فخوراً به. وكان القشة التي قصمت ظهر البعير».
لا يخفي فريحة أنّه منذ اليوم الأول لاستلام منصبه، انهالت عليه الانتقادات وواجه خلافات مع بعض أقطاب السياسة. لكنّه لم يتوقع بأن يستخدموا عبارةً واحدةً من كتاب تاريخ صف الابتدائي لإطاحته من مركزه. وكان الفصل يتناول استقلال لبنان. وأتى الشرح التفصيلي لمسلات نهر الكلب، وجردة بالشعوب التي احتلت لبنان وتركت أثرها على تلك الصخور من بابليين وأشوريين ومصريين ورومان وصولاً إلى... الفتح العربي. وكانت كلمة «الفتح العربي» الحجّة المطلوبة! إذ وجد بعضهم في العبارة تحريضاً على الفتنة بين لبنان وجواره العربي. وفي اليوم الثاني، صدر مرسوم رئاسي بإقالة فريحة من منصبه. قرار لا تزال آثاره النفسية تظهر في عيونه حين يتكلم عن الخيانة والطعن في الظهر.
لكنّ معركته لم تتوقف، بل قرر استعادة حقّه بنفسه. هكذا، تقدم بدعوى قضائية أمام مجلس شورى الدولة للطعن بالمرسوم الرئاسي والقرار الوزاري وربحها. وكانت النتيجة أن «قرار الإقالة غير صالح ولا مبرر». لكن مجلس الوزراء لم يعِد فريحة إلى منصبه... فقرر هذا الأخير الرحيل. وانهالت عليه العروض من الدول العربية والجامعات الغربية. فهو صاحب منهج جديد في التربية يدعى «التربية الشمولية» وضع أسسها بنفسه مرتكزاً على دراساته وسنين خبرته في لبنان. منهجية تطرح حلاً للمجتمعات العربية التي تتكلم العامية وتعلّم الفصحى. غادر فريحة لبنان إلى سلطنة عمان حيث يعمل حالياً مستشاراً للمناهج التربوية في مدارس السلطنة التي صارت تطبق منهج «التربية الشمولية».
إلا أنّ علاقة فريحة بأرضه لا تزال قوية. فالعائلة تعيش هنا والزيارة ضرورية مرات عدّة في السنة. وهو لا يزال يقرأ الصحف... ويتابع «بغضب» كلام اللبنانيين عن التزامهم الوطني الذي يراه «كذباً وتدجيلاً». حزن عميق يظهر على وجهه: «ليس في حبي للبنان أي حسّ عقلاني. أدّيتُ واجبي كمواطن، ولم أستغل وطني ولا مواقع الإدارة التي استلمتها. ولم أتوقع مكافأة لكني لم أتوقع إهانة أيضاً. وما يصعب علي فهمه أنني بعدما أُهنت في وطني، لا تزال دول عدّة تكرّمني وتعرض عليّ المناصب والمسؤوليات؟».


5 تواريخ

1952
الولادة في كفر زبد

1968
الالتحاق بدار المعلمين

1973
كلية التربية في بيروت

1985
شهادة الدكتوراه من جامعة «ستانفورد» (الولايات المتحدة) عن أطروحته «تأثير الطائفية على التربية المواطنية في المدارس اللبنانية»

1999
رئيس «المركز التربوي للبحوث والإنماء» حتى عام 2001