هذا العام أيضاً تنعقد في دبي دورة جديدة من معرض المعلوماتية «جيتكس». يُقدّم هذا المعرض كحدث استثنائي في الحياة العربية، ولكنّ التدقيق فيما تعرضه الشركات فيه يلفت إلى أنها تقدم ما روّجت له خلال نشاطات مختلفة. واللافت أن وسائل الإعلام تغفل نقده لتركّز على الحديث التقني الصرف
دبي ـ غسان رزق
إنه «جيتكس دبي 2008». المعرض الذي يصف نفسه بأنه أهم حدث للمعلوماتية والاتصالات في الشرق الأوسط. ويُقام سنوياً في دبي منذ أكثر من عقدين، وتمتد أعماله أسبوعاً في الغالب. دورة هذا العام انطلقت في 18 الجاري وتستمر إلى 24 منه. مع قاعات عالية الأسقف وفائقة الإنارة والاتساع والبرودة، بدا «جيتكس» أشبه بقصر شرقي أسطوري تمارس فيه الشركات العملاقة سطوتها إلى الحد الأقصى. لا أحد يعارضها هنا، ولا يرتفع صوت ليناقش مزاعمها وادّعاءاتها التي تتحول إلى أحكام مُطلقة. والمفارقة أنها الشركات التي تأتي من الغرب الديموقراطي، بل تصف وجودها بأنه دعم للديموقراطية في «العالم المتخلّف».
واللافت أن ذلك يحدث في الخليج، حيث تنعقد المؤتمرات المتعاقبة وتتعالك أفواهها الحديث عن «ثقافة قبول الآخر»، وتنتقد، مباشرة أو مداورة، من يدعو إلى وضع الغرب وهيمنته قيد السؤال. والمفارقة أن جمعاً ممن يصفون أنفسهم بـ«الليبراليين العرب» يؤيّدون ما تقوله أفواه من يمسكون بزمام الأمر في «جيتكس دبي 2008»، كما في أسلافه. لا أحد يناقش شركات الكمبيوتر في مفهومها لحقوق الملكية الفكرية، فيما ترتفع الأصوات في الغرب قوية للمناداة بفتح المعرفة أمام الناس، وبالاعتماد على المصادر المفتوحة. ولا يسمع أحد عن حق الناس في المعرفة وانفتاحها، إلا إذا جاء ذلك على ألسن غربية.
فمثلاً، شدد مدير شركة «صن مايكرو سيستمز» على أهمية نُظُم الكمبيوتر المفتوحة المصدر، وكذلك فعل بعض مهندسي المعلوماتية في شركة «انتل». ولقد تمكّنوا من قول هذه الأمور لأنهم غربيون. لكن لا تقرأ عن المصادر المفتوحة لا في الصحف العربية التي تُغطّي الحدث ولا في الجريدة اليومية التي تصدر عن «مركز دبي العالمي للتجارة» الذي يستضيف الحدث في قاعات وأروقة ممتدة بين شارعي «الزعبيل» و«الرشيد»، حيث مقرّه الرئيسي.
ينحصر الكلام المسموح عن «جيتكس دبي 2008» بالحديث التقني الصرف. وكلما أمعن الحديث في وصف التقنيات وأجهزتها وقدراتها، كان مرغوباً ومسموحاً.
والأحرى أنه كلما بدا الكلام مذهولاً بعظمة التكنولوجيا الرقمية، صار مسموعاً ومرئياً إلى الحد الأقصى. إن سألت من يُعطي مايكروسوفت الحق في الاستمرار في التحكّم بنظام «ويندوز فيستا» بعد بيعه للمستهلك، يقع كلامك في آذان صمّاء تدعمها نظرات الاستهجان والاستغراب والإدانة الضمنية أو المعلنة. أما إن قلت إنه يعطي مشهدية هائلة في صنع وثائق مكتوبة تظهر أمام الأعين كأنها تفتح صفحة ورق باليد، فإن الكلام يصبح مستحسناً وتلاقيه الرؤوس بهزات الموافقة والانبهار.
ماذا لو خطر لك أن لا شيء جديد في «جيتكس دبي 2008»؟ ماذا لو قلت إن هذا المعرض لا يقدم سوى ما دأبت الشركات الغربية العملاقة وشركاؤها وفروعها المحلية في العالم العربي خصوصاً على ترويجه خلال العام الذي يفصل المعرض الراهن عن سابقه في السنة الفائتة؟ الأرجح أن البعض سيوافق بما يشبه الهمس، لكن لا أحد يكتب وصفاً كهذا في صحف الخليج ولا في غيرها من صحف العرب. ماذا لو خطر لك الحديث عن التناقض بين استحضار راقصات وعارضات غربيات لدعم الترويج للسلع، (إذ يؤدّين وصلات رقص على منصّات الشركات، وكذلك يقفن بأجسام ممشوقة عليها ثياب تكشف الكثير من جمالياتها)، ومصادرة الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية للمرأة عربياً وخليجياً؟ ماذا لو لاحظت الشاشات الهائلة المرصوصة في القاعات (وصل حجم شاشة التلفزة من الكريستال السائل إلى 108 بوصات، وهي من صنع «توشيبا»، فيما تجاوزت شاشات البلازما من «إل جي» مترين)؟
اللافت هذا العام أن شركتي الاتصالات المتنافستين في دبي والإمارات (وهما «الاتصالات» و«ديو»)، ركّزتا على الخدمات التي تُقدم عبر شاشة الخلوي، وخصوصاً مواد الترفيه التلفزيوني وأفلام الفيديو عند الطلب، والأغاني ومكتبات الموسيقى وغيرها. والمعلوم أن انتشار شبكات الخلوي المتطورة من الجيل الثالث في الإمارات وكثير من دول الخليج سهّل تقديم هذا النوع المستجد من الترفيه البصري ـــــ الاتصالي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أجهزة الخلوي المتطورة باعتبارها شرطاً للاتصال بشبكات الجيل الثالث. وكذلك عُرضت التقنيات المختلفة للبث التلفزيوني عبر الخلوي، وخصوصاً تقنيّتا «دي اتش بي» (اختصار «ديجيتال هاندسيت بروكاستنغ» Digital Handset Broadcasting) و«دي في اتش بي» (اختصار «ديجيتال فيديو هاندسيت برودكاستنغ»). والطريف أن كلّاً من دول الخليج تعتمد كلتا التقنيتين باستقلالية، ما يحمل احتمال انتشارهما معاً على الأجهزة الخلوية المتطورة في تلك المنطقة. وما زال المحتوى عينه مستخدماً عربياً على شاشات التلفزة التي يتزايد تمدد مساحاتها، وشاشات الخلوي الصغيرة التي تضع أجهزة الاتصال وضرورة حملها يدوياً حدوداً صارمة على مساحتها. أليس في الأمر مفارقة؟ ربما. لكنه كلام مما لا يُسمع في «جيتكس دبي 2008».