عصام نعمان *مواقف كثيرة مثيرة للجدل اتخذها العماد ميشال عون مذ بدأ تعاطي الشأن العام في الوطن والمنفى. لعل أكثر مواقفه إثارة للجدل زيارته الأخيرة لإيران. الغالبية من القادة المسيحيين لـ«قوى 14 آذار» سارعوا إلى تقريعه كأنما الرجل ارتكب فعلاً منكراً. حتى بعض القادة المسلمون الآذاريون شاركوا أقرانهم المسيحيين الحملة على العماد. لماذا كل هذه الضجة؟
ثمة قاسم مشترك بين منتقدي عون والمتحاملين عليه. كلهم من كتل الموالاة المنضوية في «14 آذار». الموالاة هنا، لا تعني موالاة الطبقة السياسية القابضة بقدر ما تعني موالاة الغرب، ثقافياً وسياسياً.
ولعلّ موالاة الغرب ثقافياً هي منطلق الحملة والضجة. فأركان الطبقة السياسية وكوادرها وناشطوها يشتركون، في معظمهم، في الانتماء الى ثقافة الغرب، ثقافة أوروبا وأميركا. منها نهلوا وينهلون قيمهم وأنماط حياتهم، ومع ظواهرها ومصالحها السياسية والاجتماعية تماهوا ويتماهون.
ليس من الغلوّ القول إنهم يعيشون بأقدامهم على أرض الشرق وبعقولهم في أوساط الغرب.
عندما بادر العماد عون إلى محاورة حزب الله ومن ثم توقيع «ورقة التفاهم» معه، ثارت ثائرة أولئك الذين يثورون اليوم احتجاجاً على زيارته لإيران. لم يكتموا وقتها سبب ثورتهم. قالوا إن عون يناقض بسلوكيته السياسية تقليداً راسخاً للمسيحية اللبنانية المتحالفة مع الغرب. لم يقوّموا خطوته بميزان المصالح والأهداف السياسية. فالمصالح في سلوكيتهم المتوارثة والراسخة، تأتي في مرتبة أدنى وإن كانت دائماً، في رأيهم، متلازمة مع الغرب. المرتبة الأولى هي للثقافة، لثقافة الغرب بما هي الهوية الحضارية ومعيار التقويم والاختيار. عون منتمٍ أصلاً إلى ثقافة الغرب. كان بادئ الأمر، جزءاً من التيار المسيحي العريض الذي جاهر بانتقاده لـ«الشرق الإسلامي» حتى عندما كان زعماؤه ينصاعون لسياسة الغرب الأوروبي والأميركي ويدافعون عنها بلغة عربية وتقاليد إسلامية.
غير انه أدرك، بتجربته السياسة الغنية والمضطربة أن للمصالح الوطنية سيرورة ومعايير لا تحكمها بالضرورة ثقافة الغرب.
أكثر من ذلك، استخلص عون من تجربته وخبرته أن الغرب لا يهتم إلّا بمصالحه. فهي التي تقرر سياسته وتحالفاته. الدين لدى الغرب، سواء المسيحية أو الإسلام، هو مجرد واسطة تعبير وتدبير توجّهها المصالح والأغراض الاقتصادية والاستراتيجية. باللغة الدارجة: برميل النفط ــ ومصدره إسلامي ــ أهم بكثير لدى أوروبا وأميركا من كنائس مسيحيي الشرق وأديرتهم. ألم يعرض موفد أميركي على رئيس الجمهورية سليمان فرنجية بواخر جاهزة لنقل المسيحيين إلى كندا بعدما بدا أن القوى المسيحية الموالية للغرب خسرت المواجهة مع القوى الوطنية «الإسلامية واليسارية» المدعومة من التنظيمات الفلسطينية سنة 1976؟
قبل عون، كان مفكرون وقادة مسيحيون كثيرون قد توصلوا إلى النتيجة نفسها. مكرم عبيد في مصر، وميشال عفلق وقسطنطين زريق في سوريا، وانطون سعادة في لبنان، وجورج حبش في فلسطين، ونايف حواتمه في الأردن، وطارق عزيز في العراق ــ كل هؤلاء وقبلهم وبعدهم كثيرون أدركوا أنّ المصالح الوطنية والقومية يجب أن تكون لها المرتبة الأولى في الاعتبار وفي صنع القرار، وأن الثقافة، على أهميتها، يجب أن تخدمها وتعززها، لا أن تتحول أداة تعويق أو تعطيل.
إزاء هذه الخلفية من التجارب والمواقف السياسية والذاتية لقادة مسيحيين في المشرق العربي، وعقب اندحار الجيش الإسرائيلي أمام المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله صيفَ 2006، وتعثر الولايات المتحدة في حربها ضد العراق وأفغانستان، وإخفاق «خريطة الطريق» الأميركية في لجم السياسة الاستيطانية التوسعية الإسرائيلية، وبروز إيران كقوة إقليمية مركزية قادرة على تحدي الغرب الأطلسي، إزاء هذه التطورات والتحديات، حسم العماد ميشال عون خياره وقراره: التحرر من كوابح ثقافة الغرب السياسية والانحياز إلى قوى الممانعة والمقاومة في المشرق العربي الناشطة من أجل رفع الهيمنة الأميركية، والتصدي للعدوان الصهيوني المستمر على شعب فلسطين، والتصدي للتواطؤ الأوروبي معهما.
أدرك عون أيضاً أن موازين القوى في المنطقة أخذت تميل باطّراد لمصلحة دول الممانعة وقوى المقاومة الناشطة ضد الهيمنة الأميركية والعدوان الصهيوني، وأنّه مُطالب وطنياً وقومياً وإنسانياً، كما هو مطالب من جانب وسطه المسيحي اللبناني، بالتصدي للفصل الأخير من «المسألة الشرقية» الذي يجري تمثيله حالياً في شمال العراق.
المسألة الشرقية مصطلح سياسي أوروبي يعود إلى القرن التاسع عشر ويتعلق بالأقليات، الإثنية والطائفية والمذهبية والثقافية، التي كانت تزخر بها السلطنة العثمانية. وإذ نشط الغرب الأوروبي من أجل تفكيك السلطنة ورفع يدها عن طريق التجارة الدولية التي تمر عبرها إلى الهند والشرق الأقصى ومنهما، فقد استثار الأقليات وعزّز تمايزها عن العنصر التركي المسيطر في السلطنة.
بعض الأقليات والبلدان، كاليونان والبلغار، نجح، بدعم من أوروبا، في تحقيق استقلاله عن السلطنة. بعضها الآخر، كمصر، انفصل عنها لكنه وقع تحت سيطرة بريطانيا التي سيطرت على قناة السويس. أما بقية أقليات السلطنة، فقد جرى زجّها في صراعات ضدّ بعضها بعضاً أو ضد السلطنة ذاتها. ثم جاء اتفاق سايكس ــ بيكو ليفتّت السلطنة إلى كيانات عدة على النحو المعروف.
بعد زرع إسرائيل في قلب المشرق العربي، أصبحت المسألة الشرقية من «اختصاص» الكيان الصهيوني وبرعاية أميركا. في هذا الإطار، جرى فصم وحدة مصر وسوريا سنة 1961، ومحاولة تقسيم لبنان سنة 1982، و«فصل» قطاع غزة عن الضفة الغربية منذ 2007، وقبلها وبعدها محاولة تفكيك العراق بين عرب وكرد، ثم عملية تهجير مسيحيي شمال العراق الناشطة حالياً.
عون وغيره كثيرون، كانوا قد حمّلوا إسرائيل مسؤولية تهجير مسيحيي فلسطين، والولايات المتحدة مسؤولية تهجير مسيحيي العراق لكونهما سلطتي احتلال. يخشى عون اليوم على مسيحيي لبنان من مصير مشابه. لذلك شدّ الرحال إلى طهران بعدما أدرك أن إيران، وفق ما قال أحد أركانه، «هي من تدافع عن مسيحيي العراق في محنتهم، بينما لم تستنكره دول عربية حليفة لـِ« قوى 14 آذار» .
بعبارة أخرى، يشعر عون وقادة تياره بأن دول الممانعة، سوريا وإيران، وقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية ستقف بالتأكيد مع مسيحيي المشرق العربي ضد سياسة الولايات المتحدة وممارسات إسرائيل المؤذية لهم على جميع المستويات.
حلفاء أميركا الإقليميون، ساءهم بطبيعة الحال أن تلقى سياسة إيران بين عرب المشرق ترحيباً وتأييداً. قرروا، على ما يبدو، التصدي لها بمغادرة سياسة الصمت والسكون والعودة إلى ممارسة حضور سياسي وإعلامي في ساحاتٍ كانوا قد أخلوها منذ سنوات عدة.
في هذا الإطار جرت دعوة سمير جعجع، خصم عون اللدود، لزيارة مصر ومقابلة الرئيس حسني مبارك. جعجع ليس زعيم «قوى 14 آذار» ولكنه أكثرها نشاطاً وفعالية ضد عون. من شأن دعوته إلى مصر، وربما بعدها إلى السعودية، دعم سياسته وحظوظه بين المسلمين من أهل السنة، أي حلفائه في الانتخابات المقبلة.
غني عن البيان أنّ جعجع متشرّب ثقافة الغرب، قلباً وقالباً، وتتقدم عنده قيم الحياة الغربية وتقاليدها على الثقافة المغايرة التي توجّه قوى الممانعة والمقاومة. التعصب لثقافة الغرب أفعل في شخصه وسلوكيته من التعصب للمصالح الوطنية العليا كما تراها غالبية اللبنانيين بل غالبية المسيحيين.
إذ يشرّق عون باتجاه سوريا وإيران وقوى المقاومة في المشرق العربي، ويغرّب جعجع باتجاه حلفاء أميركا الإقليميين، تدخل المسألة الشرقية مرحلة جديدة من عمرها الطويل. صحيح أنّها قضية قائمة بذاتها ومتجددة، لكن احتدام الصراع بين حلفاء أميركا وأعدائها في المنطقة سيظللها بمشاهد حارة ومشوِّقة لصراع محموم على السلطة في شتى بلدان المشرق، ولا سيما في لبنان، حيث تجري في أواخر الربيع المقبل انتخابات فاصلة لا تقرر نتيجتها ألوف أوراق الاقتراع في صناديق الانتخاب بل مئات ملايين البترو ــ دولارات في صناديق الزعماء.
* وزير سابق