ياسين تملالي *ولم يستعد الرئيس حريته ولم تطلق يداه. استغل هو وليبراليو السلطة الوضع للتخلص من رموز «الاقتصاد الإداري الريعي» في الحزب الواحد. صوّروهم على أنهم وحدهم الدكتاتوريون «الرافضون للاختلاف»، واقترحوا «إصلاح جبهة التحرير» بفتحها كلّ «الحساسيات الوطنية». لكنّ المارد كان قد غادر قمقمه، وظهر للعيان ما كان يُخبأ عن الجزائريين: أحزاب يسارية وإسلامية وعلمانية ومنظمات نسوية ونقابات عمالية وطلابية خرجت من أقبية السرية إلى وضح النهار. رفضت هذه القوى أن تتحوّل إلى تيارات داخل الحزب الواحد. واصلت المطالبة بالتعددية وإطلاق الحريات. وساندت مطلبها بعض أجنحة النظام، آملة أن تعطيَ الحريات أخاً شرعياً أصغر، اسمه الرأسمالية. فكان دستور شباط / فبراير 1989. فرح الجميع بالدستور الجديد. الليبراليون لأن الليبرالية لم تدفن في مأتم الحزب الواحد بل أُقرت كديانة البلد الرسمية بعد الإسلام. والإسلاميّون لأنّ الديموقراطية ستختصر لهم طريق «الصحوة الإسلامية»، واليساريون لأنها ستسمح لهم بتوسيع انغراسهم، والبربريون لأنها ستمكّنهم من الدفاع عن الهوية الأمازيغية في الشوارع لا في السجون.
وكان النظام يعرف أنّ انتفاضة أكتوبر لم تكن تستهدف الديموقراطية بقدر ما كانت تستهدف العدالة، ولم تكن بورجوازيته تريد العدالة بل الاستمرار في نهب ثروات البلاد تحت غطاء أكثر شرعية. قرّر لعب ورقة الإسلاميين وكلّفهم باحتواء الغضب الشعبي في حدود مقبولة. سمح بإنشاء «جبهة الإنقاذ لإسلامية»، ونصّبها ممثلاً للشعب، وتفاوض معها أكثر ممّا تفاوض مع النقابات والمنظمات المدنية. واستغلت الجبهة الفرصة لوضع أجندتها حيّز التطبيق. كانت تعرف أن مطلب معظم الجزائريين لم يكن «الديموقراطية الغربية» بل المساواة، فأعلنت أنّ «الإسلام هو الحل»، وذكّرت بأنّ «الحق» أحد أسماء الله الحسنى. فازت في أولى انتخابات بلدية تعددية (حزيران / يونيو 1990)، وفهمت أن مكمن قوتها هو تولّيها مهمات الدولة المستقيلة من كل شيء عدا القمع. فتحت «الأسواق الإسلامية» في البلديات الفقيرة وأعلنت أن المعاصي سبب البلاء وأنّ رأس المعاصي النظام.
واستأثرت «جبهة الإنقاذ» بالقواعد الشعبية. انكسر اليسار، فما كان يفيده انغراسه العمالي في شيء وهو يرى مركز ثقل المعارضة يتحول من المصنع إلى الشارع، إلى فئات مهمشة لا علاقة لها بعالم الإنتاج. وانكسرت «الأحزاب الديموقراطية» وهي ترى الإسلاميين يؤلّبون عليها الشعب ويصوّرونها على أنها أحزاب كافرة: أين المفر من جحافل المهمشين سوى تحت مظلة الجيش؟
فهم النظام أن الإسلاميين ليسوا آلة في يده، فأقسم ألا يكون البرلمان إسلامياً. وأعد رئيس الحكومة، مولود حمروش، قانوناً انتخابياً على مقاس الحزب الواحد الأسبق، «جبهة التحرير»، وقسّم الدوائر الانتخابية بما يتلاءم ونفوذه. وغضبت «جبهة الإنقاذ» وطالب راديكاليوها بانتخابات رئاسية مسبقة، فلا فائدة من انتخابات نيابية «مخيطة»، وأعلنوا العصيان المدني في أيار / مايو 1991. وتدخلت قوات الأمن لتفريق المعتصمين في الساحات العمومية. قتلت من قتلت واعتقلت العشرات من قادة الإسلاميين وكوادرهم. وزاد القمع من شعبية «جبهة الإنقاذ» وتحوّل «شيوخها» المسجونون إلى آلهة على الأرض، فلم يعد بدّ من إشراكها في الانتخابات النيابية. وقبِل من بقي من زعمائها طليقاً المشاركة فيها واثقين من الفوز بها ببركة الدم المسفوح.
وفيما كانوا يعدون لها العدة، كانت المنظمات الجهادية النائمة ـــ اليقظة قد بدأت تجتذب إليها فلول اليائسين من ارتقاء كرسي الحكم عن طريق الانتخاب. عاودت هذه المنظمات الدعوة إلى إقامة شرع الله بحدّ السيف لا بصندوق الاقتراع المثقوب، وأعلنت عن ميلادها الجديد بالهجوم على ثكنة للجيش في الجنوب.
أُجريت الانتخابات في أواخر كانون الأول / ديسمبر 1991 وانقلب السحر على الساحر. فازت «جبهة الإنقاذ» وثارت ثائرة الجيش على ستراتيجيّي النظام السذج غير العالمين بعلم الحساب. ثمّ قرّر الجنرالات الانقلاب على «خيار الشعب» الحبيس بين براثنهم وبراثن الإسلاميين؛ أقالوا رئيس الجمهورية وألغوا نتائج الانتخابات وأعلنوا حالة الطوارئ وحلوا «جبهة الإنقاذ» وألحقوا بقادتها في المعتقلات الآلاف من كوادرها. ومن استطاع من هذه الكوادر النجاة بنفسه التحق بالجماعات المسلّحة، وقد تأكد أن «الديموقراطية كفر» يودي بصاحبه إلى جهنم، وقبل جهنم إلى جحيم مراكز الاحتشاد في الجنوب. وبعثت عنقاء العنف الإسلامي من الرماد. تقوت الجماعات المسلّحة بآلاف الأبرياء ممن قضوا شهوراً أو سنين في محتشدات الاعتقال لا لشيء سوى تصويتهم لـ«جبهة الإنقاذ». واستغل الجيش مجازرها ليعمل في كل من يشتبه في انتمائه إليها قتلاً واختطافاً وتنكيلاً.
عندها انقسمت البلاد إلى معسكرين، واختصر الصراع السياسي إلى صراع بين مشروع دولة إسلامية تعطي الحاكمية لله لا للمسلمين، ومشروع دولة مدنية تعطي الحاكمية للجيش لا للمدنيين.
اندثرت الحركة النسوية وتضعضعت الحركة الأمازيغية وتحوّلت الانتخابات إلى مهزلة مبكية، ولم يعد لمعظم «الديموقراطيين» من صدقية بعدما ساندوا القمع وانتهاك حقوق الإنسان باسم مكافحة «التهديد الإسلامي». واستغل النظام ظروف الحرب الأهلية، فأعمل في البلاد سكين الليبرالية. رفع آخر القيود عن التجارة الخارجية وحل مئات المؤسسات العمومية وألقى بملايين العمال في سوق البطالة. ازدوجت «حربه على الإرهاب» بحملة شعواء على مكاسب الاستقلال.
انتصر النظام عسكرياً على الإسلاميين المسلّحين، لكنّه كان «انتصار بيروس» كما يقول الفرنسيون، ثمنه آلاف الاغتيالات والاختطافات. وأقنع القمع آلاف الإسلاميين المسلّحين بالعودة إلى كنف الوطن العزيز في إطار قانونَي «الوئام المدني» و«المصالحة الوطنية». عادوا إلى «الحياة المدنية» وكأن شيئاً لم يكن، فالعفو عنهم كان أحد شروط عفو السلطة عن نفسها ومسح خطاياها بأيديها. تصالح المسلحون مرتين، في 2000 و2004، وأُهمل الشعب في المعادلة. أُهمل «ضحايا الإرهاب» كما أُهملت «عائلات المفقودين». فالجزائر، قال رئيسها الجديد، عبد العزيز بوتفليقة، «يجب أن تنظر إلى الأمام لا إلى الخلف»، فبإمكانها أن تتحول إلى «نمر المغرب العربي». ويتطلب تحقيق هذا الحلم القضاء على «مخلّفات الاقتصاد الريعي» وفتح باب البلاد على مصراعيه للاستثمارات الخارجية.
وأوغل عبد العزيز بوتفليقة في طريق الليبرالية معصوب العينين، وصنع في تسع سنوات من الحكم قنبلة لا تزال البلاد تمشي عليها إلى اليوم: جيشاً من العاطلين وضحايا التسرب المدرسي والعنف البوليسي.
تقوّت الحركات الإسلامية المسلّحة من جديد، وانغرست في كل مناطق البلاد، ولم يعد ينجو من هجماتها رمز واحد من رموز النظام: لا الثكنات العسكرية ولا قصر الحكومة ولا رئيس الجمهورية نفسه بالرغم ممّا يحاط به من قلاع أمنية.
وها هي الجزائر اليوم لا تزال تنظر إلى الأمام ولا ترى في الأفق ما يبشر بانتهاء محنتها. اقتصادها بيع بالتقسيط، وثرواتها مخزنة في بنوك أميركا، فيما يتهلهل نظامها الصحي ويتقهقر مستوى التعليم فيها وتتعمق الهوة بين مدنها وأريافها.
النظام يعيث فيها فساداً، والإسلاميون متربّصون، يتحيّنون الفرصة ليلحقوها عنوة بملكوت الله. قد يذكرنا هذا الوضع بـ«أكتوبر 1988»، إلا أن هناك فرقاً بين حالتين تفصل بينهما عشرون سنة من القتل والتدمير: السلطة، وهي تستهلك البلاد، استهلكت كل أنصاف الحلول من «ديموقراطية التزوير الانتخابي» إلى «الإسلام المعتدل». لم يعد للشباب اليائس من خيار سوى الانتحار، بحراً في قوارب الهجرة السرية، وبرّاً في الجبال، تحت ألوية «الجهاد».
* كاتب وصحافي جزائري