مصطفى بسيوني *«هما يناموا في القصور وإحنا نموت تحت الصخور»، هو الهتاف الذي ردّده المتظاهرون من أهالي منطقة الدويقة المنكوبة بانهيار صخور المقطم على منازلهم، ومعهم أهالي المنازل المزالة في المنطقة والمناطق المحيطة تجنّباً لانهيارات جديدة متوقّعة. كان قد مرّ أكثر من شهر على كارثة الدويقة عندما ردّد الأهالي المنكوبون هذا الهتاف في العاشر من تشرين الأول / أكتوبر أمام مبنى رئاسة حي منشأة ناصر الذي يتبعونه. في التظاهرة نفسها، ندّد الأهالي بالإهمال الذي اعتبروه متعمّداً خلال التعامل مع كارثتهم، بالقياس إلى تعامل الأجهزة الرسمية مع حوادث مشابهة تقع في الأحياء الأرقى، مثل انهيار عمارة مدينة نصر. لقد استغرق أهالي الدويقة نحو شهر منذ وقوع الكارثة ليضعوا أزمتهم في سياقها الطبقي، وإن بشكل تلقائي بالطبع. الأحداث السابقة واللاحقة على الكارثة تتكفّل بتفسير هذا الشعور بالظلم الذي عبّر عنه متظاهرو الدويقة.
لم يكن انهيار صخور المقطم على المناطق العشوائية مفاجأة. فقد سبق ذلك انهيار مماثل عام 1993، صدر بعده تقرير أعدته لجنة جيولوجية وهندسية.
المثير في هذا التقرير أنه صنّف المنطقة المنكوبة بعد صدور التقرير بـ15 عاماً كمنطقة «خطورة من الدرجة الثانية». وقدّم التقرير توصيات لتفادي كوارث متوقعة في المستقبل، أهمها أن يكون هناك حرم للجبل لا يقل عن 100 متر من جميع الجهات، واتخاذ اللازم لمنع تسرب المياه بالقرب من حافة الجبل، وجرى تخطيط مكان جديد ليكون بديلاً للمساكن المجاورة للجبل على أن يراعي وقوعه في موضع مناسب لممارسة سكان المنطقة أنشطتهم الاقتصادية. إذ يمارس السكان في هذه المنطقة أنشطة اقتصادية مرتبطة بالمنطقة نفسها، مثل جمع القمامة وتدويرها.
لم يكن هذا هو التقرير الوحيد الذي صدر للتحذير من الأخطار المحدقة. فقد تلته العديد منها ولم يعرف أبداً مصيرها. وهذا المستوى من الإهمال يصل لدرجة القتل العمد، وهو ليس غريباً على البيروقراطية المصرية، ولكن اللافت أن هذه الفترة بالذات، من 1993، سنة الانهيار الأول وصدور التقارير المحذرة من الكوارث، و2008 سنة الكارثة الحالية، هي التي شهدت توسعاً عمرانياً في هضبة المقطم، ولكن لمصلحة أحياء راقية وفخمة للأغنياء أو أحياء القصور كما هتف منكوبو الدويقة.
الطريقة التي تعاملت بها الدولة مع الكارثة لم تختلف عن طريقتها في التعامل مع الكوارث والأزمات عادة. الأداء العصبي نفسه الذي يصل لحد التشنج، والتضارب الدائم في البيانات ومحاولة التقليل من حجم الخسائر. فمثلاً سقطت الصخور على 36 منزلاً يؤوي كل منها أربعاً أو خمس أسر في المتوسط، يعيش في كل منها 6 إلى 7 أفراد، بالإضافة إلى ثلاثة مصانع للكرتون والورق.
وتشير البيانات الرسمية إلى استخراج 106 جثث فقط من تحت الأنقاض، بينما يؤكد الأهالي أن تحت الركام ما يزيد على 150 جثة أخرى لم تُستخرج. حاولت أجهزة الدولة من البداية التقليل من وقع الكارثة، ولكن ليس بمعالجة سريعة لنتائجها المتمثلة في تشريد مئات الأسر، بل عبر سياسة كمّ الأصوات، ففرضت سياجاً أمنياً مشدداً على المنطقة، ومنعت الصحافيين من الدخول إليها. ولكن الأكثر إدهاشاً كان طريقة التعامل مع المنكوبين أنفسهم، الذين فقدوا للتو المأوى والعمل في الوقت نفسه مع فقد أعزائهم.
فمن اليوم الثالث للكارثة، واجهت قوات الأمن احتجاجات المنكوبين المطالبة بالمأوى بعنف غير مبرّر. فاعتدى الأمن بالضرب عليهم وفرّق تظاهراتهم بالقوة، ووصل الأمر إلى اختطاف المتظاهرين وإلقائهم في مناطق بعيدة. وفي اليوم الخامس من الكارثة، ألقى الأمن القبض على 3 من الأهالي بتهمة التعدي على الشرطة، وفي اليوم التالي، ألقى القبض على 20 من شباب المنكوبين. هكذا قرّرت الحكومة معالجة كارثة الدويقة بالطريقة التي يُصنّف الضحايا فيها على أنهم خطرون ويجب ردعهم من البداية. والمهم أن يصبح كل شيء هادئاً، حتى لو اضطر الأمن لمنع ليس فقط الصحافيين ـــ عدا وسائل الإعلام الحكومية طبعاً ـــ بل حتى الإعانات التي حاول بعض الأهالي تقديمها للمنكوبين في شهر رمضان.
في ظل سياسة كتلك، ازدادت الأمور تعقيداً، فإلى جانب المتضرّرين مباشرة من الكارثة، ظهر قطاع آخر من المتضرّرين من الإزالة الاحترازية التي نفذتها الحكومة، والإخلاءات القسرية لسكان في محيط المنطقة ومناطق أخرى مرشّحة لكوارث مشابهة، وهو ما أدى إلى مزيد من الصدامات بين الأهالي وأجهزة الدولة، التي لم تكن بالطبع مستعدّة لتوفير مساكن بديلة لكل هؤلاء.
ورغم ادّعاء الحكومة أنّها وفّرت مساكن لألف أسرة، إلا أنّ ذلك ليس دقيقاً، سواء من حيث العدد أو نوعية المأوى، وخاصة مع ظهور صور مخيمات الإيواء في الصحف وتظاهرات الأهالي للحصول على مأوى. فما كان من الحكومة إلا أن اتهمت الحاصلين على مساكن بأنهم من غير المستحقين لها، وأن البعض ادعوا أنهم من المنكوبين ليحصلوا على سكن!
ليست كارثة الدويقة هي الأولى، ولا شيء يدعو للاعتقاد أنها ستكون الأخيرة. وهي تعكس بوضوح شديد أهم ملامح السياسة الرسمية في مصر في التعامل مع الأزمات والكوارث: إهمال وتجاهل شديدان لا توقظهما أقوى أجراس الإنذار. فرغم التقارير التي حذّرت منذ 1993 من وقوع الكارثة كما وقعت بالضبط، فقد اكتفت توصية صادرة من المجلس المحلي لحي منشأة ناصر حيث حي الدويقة، بإزالة التعديات على أملاك الدولة دون أي إشارة للأخطار المحدقة بالسكان. ثم ضيّق التعامل البوليسي الأفق مع أزمات هي بالأساس اجتماعية وإنسانية ولا تعالجها الإجراءات الأمنية. وأخيراً الاهتمام المبالغ به بالشكل العام للأداء الحكومي، على حساب القضية نفسها، لدرجة لا تُحرَج فيها الحكومة من التنكيل بالمنكوبين أنفسهم للحفاظ على هيئتها وهيبتها.
* صحافي مصري