لدواعٍ إنسانية، سنستهلّ روايتنا بما قالته فيروز في بداية فيلمها «بيّاع الخواتم»: رح نحكيلكم قصة عن ضيعة «لا القصة صحيحة ولا الضيعة موجودة». وبالطبع، كما في الفيلم، فإن القصة صحيحة والضيعة موجودة. لكننا لن نقول اسمها لكي لا نسيء إلى أطرافها، المتواطئين من أجل المصلحة العامة، على تجاهل قانون هو، فضلاً عن إجحافه، غبيّ
خليل عيسى
هي ضيعة منسيّة في عكار، تقع فوق ضيع أفضل حظاً منها. ومنسيّة لا يعني أنها صغيرة، فهي تعُدُّ أكثر من 15 ألف نسمة، إلا أن الصورة المتداولة في الأذهان عنها أنها كذلك. أما السبب؟ فربما لأنها نائية، وطريقها وعرة، ما يقلّص عدد زوّارها.
والقرية التي هي بحاجة من بين أشياء كثيرة إلى مركز صحّي، تتّكلّ في صحّتها على طبيبين: الأول للأطفال، والثاني للبقية شيباً وشباناً، رجالاً ونساءً. استأجر طبيب «الكبار»، وهو طبيب صحة عامة، منزلاً بغرفتين في البلدة، وحوّله إلى عيادة يستقبل فيها مرضاه. إلا أن الدولة تذكّرت البلدة، وذلك حين أوعزت إلى المخفر فيها بالقيام بكبسة على الطبيب المذكور فأقفلوا عيادته، حارمين بذلك الأهالي من خدماته المتهاودة. آه. نسينا أن نذكر أن الطبيب ممنوع من ممارسة الطبّ في لبنان لأنه... فلسطينيّ!
تدخل إلى المنطقة كأنّك تحطّ في كوكب آخر. تبدو البلدة كتجمّع من الناس متروك لنفسه. رجل خمسيني، يقف مع أقرانه عند الساحة. تسأله كيف يدبّرون أنفسهم اليوم بعد كفّ يد الطبيب الفلسطيني، فيقول «وضعنا بالويل يا عمّي!». يوافقه رئيس البلدية بأنّ الوضع الصّحي في البلدة متدهور «لا مستوصف أو مركز إسعافات أوّلية هنا». يشرح رئيس البلدية أن أقرب مركز صحّي أو مستشفى يقع في حلبا على بعد أكثر من 40 كلم، ما يجعل الحالات الطّارئة وخصوصاً اللّيلية منها «صعبة علينا»، علماً بأن شبكة الهاتف، الثابت طبعاً، لم تصل بعد إلى البلدة.
«الطبيب الآخر الوحيد في الضيعة هو اختصاصيّ في طبّ الأطفال، وهو يداوم يشكل متقطّع جداً»، فلا يأتي كل أيام الأسبوع. ويسارع الرجل الخمسيني إلى الإضافة «كما أننا لم نجد أن الطبيب الفلسطيني (المكفوف اليد) تابعٌ لأيّ جهة سياسية»، على عكس طبيب الأطفال اللبناني «الإسلامي الميول».
لا ينكر عضو حالي في البلدية أنّ معاداة بعض الناس في البلدة للطبيب كانت على خلفيّة هويته التي جرى إذكاء العداء لها خلال أحداث مخيّم البارد وبعدها. بعض سكّان البلدة أرادوا «تنفيع» الطبيب الآخر، ولو كان اختصاصه في طب الأطفال، ولو كان هواه يميل إلى أحد التنظيمات الدينية، أما السبب فهو كما يقولون «ليش بدنا نخلّي فلسطيني بالضيعة وعنّا حكيم؟»!
«لكن أكثرية الناس السّاحقة تريد بقاءه هنا» يؤكد رئيس البلدية عندما نقول له ما سمعناه. من دون أن ينفي أن تحوّلاً حصل في آرائهم على ضوء الحاجة، ما دفعهم إلى «التدقيق» في خياراتهم العنصرية المرتدية لبوساً سياسياً. فالطبيب ما زال «يقدّم للسكّان خدمات هم بحاجة ماسّة إليها»، يضيف الرجل. ويشرح «خدمات صحيّة طارئة وإسعافات أوّلية». كما أنّه «يراعي الأوضاع الاقتصادية الصّعبة، فلا تكلّف الكشفية عنده أكثر من 5000 أو 7000 ليرة، لأن الشعب هنا فقير ولا فرص عمل لديه». فزراعة الزيتون، الوحيدة الممكنة في الضيعة بسبب طبيعة أرضها لا تكفي دخلاً للأهالي. يشرح الرجل أنّه «لعدم وجود الطبيب ليس لدينا من بديل غير الاتكال على الطرق القديمة. مثل ماذا؟ يقول «لفّ الجرح بالدخّان وخرقة قماش إلى أن نصل به إلى مستشفى حلبا، أو أي شيء آخر».
مشكلة الطبابة في هذه البلدة مجرد تعبير عن الحرمان الصحّي الفظيع في كل المناطق اللبنانية البعيدة عن «المركز». ولكن، لماذا لا تلجأ الدولة إلى مداواة هذا الحرمان في الأطراف بتطبيق القانون الذي يجبر طلاب الطب المتخرجين على ممارسة الطب في الأرياف لسنتين فتحلّ مشكلة، ولكن هل يقبل المتخرّجون؟ جولة سريعة على تلامذة الطب قبل التخرج أعطت فكرة عن سبب قد يكون خلف عدم تطبيق هذا القانون.
يرفض جورج الهندي (سنة سابعة) «الفكرة». يقول «بعد كل هذا الدرس، نريد أن نحصل على المال! كيف أفعل ذلك في منطقة محرومة كالبقاع مثلاً؟». لا يخفي جورج غضبه من قوانين «متخلّفة» حسب رأيه. «أرفض منطق الفرض هذا!» ويكمل «سأذهب إلى الولايات المتّحدة لأعمل وأجني مالاً هناك». أما عمرو حجّار (سنة سابعة) فيعتقد أنّ «هذا القانون صارم جداً!» مع أنّ فكرة القانون «صحيحة ومنطقية». لكن واقع أن «لا مصاري في تلك المناطق يجعل الأمور صعبة على الطبيب المتخّرج». هناك من يظنّ، مثل إيلي رزوق (سنة سابعة) أنّ «سنتين هي مدّة طويلة جداً». وهو فوجئ بوجود قوانين كهذه هنا، متوقعاً أن تكون قوانين مماثلة مطبقة في الولايات المتّحدة (الأميركية). يقول «ربما لو كانت المدة أقصر لكان الأمر ممكناً، لكن سنتين هي وقت طويل!». ويشبّه محمود الأسعد (سنة سابعة) هذا القانون بخدمة العلم، فلا يفهم «ليش لازم نروح سنتين بعد الانتهاء من الاختصاص؟ لدينا خطط وضعناها لحياتنا. سنتين كتار».
أما المتخرج من الجامعة اللبنانية جان كلود ستيفان، وهو طبيب متدرّب، فله رأي مختلف. «ما في مشكلة. بالعكس هكذا نحصل على توزيع أفضل للأطباء في لبنان. لكن الموضوع المادي مهم أيضاً بالنسبة إلى الطبيب المتخرّج حديثاً». هنا يقترح ستيفان أن يكون ذلك عبر دراسة الحاجة إلى الاختصاصات في المناطق المختلفة وسبل تمويلها. «فطبيب البنج يحصل مثلاً على معاش شهري، أما طبيب العائلة فيتقاضى بحسب عدد الزبائن وهذا يخلق مشكلة».
أما الاعتراض «الأهم» فيأتي من خالد السبع (سنة سابعة) «الدولة لم تتكلّف علينا بأيّ شيء خلال دراستنا، ولذلك لا حقّ لها علينا بفرض قوانين كهذه!». لكن هناك دولاً عربية كسوريا مثلاً تطبق هذا القانون، يردّ طبيب الأسنان، المتخرّج حديثاً، شادي خوري، بأنّ «الدولة تتعهد تعليمهم، لذا يحق لها أن توزّعهم حسب حاجة السّكان».