زياد منى *ربما فقط قلّة قليلة من القرّاء تعرف مسيرة انحدار الحركة الوطنية الفلسطينية من طريق التحرير الذي اختطته قبل عام 1967، أي قبيل سقوط بقية فلسطين (ما يسمى حالياً الضفة والقطاع) بيد العدو الصهيوني الاستيطاني، إلى درب التخلي عن الوطن ونبذه مقابل وعود مبهمة بحفنة من ترابه تطلق عليها الاسم «فلسطين». ولمن لا يعرف، بدأت تلك المسيرة غير المظفّرة بعد الهزائم المنكرة التي تلقتها على يد النظام الأردني (70/71) والتي انتهت بخروجها من وسطها الشعبي الطبيعي إلى لبنان، واختُتمت بعد اجتياح لبنان واحتلال بيروت في عام 1982 عبر رحلة استسلام طويلة باتفاقية أوسلو وملحقاتها. أي إن برنامج «الدولتين» هو مشروع انهزامي بامتياز.
لقد بدأت حفلات نبذ قيادة منظمة التحرير الوطن الفلسطيني تحت عنوان عام فضفاض مخادع اسمه «التسوية»، وعبر برنامج أكثر خداعاً عُرف باسم «البرنامج المرحلي»، الذي استحال في نهاية المطاف مشروع «تأسيس سلطة وطنية «مقاتلة»، قيلت نكاية وإمعاناً في مكايدة جورج حبش الذي أصر على وضع صفة «مقاتلة» على أي جزء يجري تحريره، وكذلك رفض قرار مجلس الأمن رقم 242، ليس لأنه يثبت كيان الاغتصاب الصهيوني في فلسطين وضمن حدود آمنة ومعترف بها، بل فقط «لأنه يتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية لاجئين».
مع هذا، «بلعت» قيادة منظمة التحرير رفضها اللفظي ذاك بعد المزيد من الهزائم التي قادتها إليها سياساتها غير الحكيمة، والارتجالية الاستخفافية بكل الضوابط والمعايير البديهية في ألف باء أي نشاط نضالي، حيث اعترفت به وبغيره من القرارات التي تثبت «شرعية» كيان العدو، بل وغيّرت من ميثاقها ومن برامجها وفق مطالبه، إلى أن قبلت حتى بـ«كرضاي فلسطين» وفق كلمات رئيسها الراحل، قبل أن تحصل على شيء، سوى الوعود بأن طرفاً ما سيعرض على طرف ما في مكان ما في سنة ما شيئاً ما!
في الوقت نفسه، وانسجاماً مع موقفها ذاك، اتخذت قيادة المنظمة وقتها أيضاً قراراً بالاتصال بـ«القوى اليهودية المعادية للصهيونية»، استحال، كما «البرنامج المرحلي» إلى الاتصال بالقوى الصهيونية فقط وتحريم الاتصال بأي قوى يهودية معادية حقاً للكيان الغاصب.
ولأن التاريخ علّمنا أن من يتنازل عن حبة رمل من وطنه فإنه على استعداد للتنازل عنه كله، وعن أوطان غيره أيضاً، فإننا من هذا المنطلق وضمن هذا السياق ننظر إلى مسألة نشر كتاب «مدينة / قصص مدن من الشرق الأوسط» في لندن باللغة الإنكليزية، شاركت فيه مجموعة من الكتّاب والكاتبات «الشرق ــ أوسطيين»، منهم، إضافة إلى الصحافية جمانة حداد مسؤولة الصفحة الثقافية في «النهار» عن (بيروت)، كل من جمال الغيطاني (القاهرة) ونبيل سليمان (اللاذقية) وغيرهم، ويتصدرهم الكاتب الإسرائيلي إسحاق لاؤور (تل أبيب).
في هذا الكتاب تستحيل بيروت وبغداد والقاهرة واللاذقية وغيرها في نظر المشاركين مجرد مدن في «الشرق الأوسط»، تماماً مثل تل أبيب. ولذلك فإنه كتاب يسوّق للتطبيع مع العدو من دون تخفٍّ أو مواربة. أما الحديث عن «النوايا»، فيقودنا إلى أن الطريق إلى جهنم غالباً ما تكون مبلطة بالنوايا الحسنة، لذا على كل فرد التمعن في أفعاله قبل الإقدام عليها، متذكّرين أن سن كل مشاركة ومشارك في الكتاب تجاوز الواحدة والعشرين.
في ظنّنا أن بعض الكاتبات والكتاب تجاهلوا عن وعي، وأن آخرين عن غباوة وافتقار إلى الحد الأدنى من الحكمة والنظرة المتأملة التي أعماها اللهاث وراء مصالح شخصية ضيقة وشهرة مشكوك فيها، أن هذا الكتاب دعوة تطبيعية بيّنة، وترويج واضحُ المفردات لمقولة الشرق الأوسط «الجديد» الذي داسته أقدام المقاتلين اللبنانيين والعراقيين ومرّغت رؤوس قادته الأميركيين والصهاينة وملحقاتهم من العُربان في الوحل.
لقد قيل وكُتب الكثير عن «تقدمية» الكاتب الإسرائيلي إسحاق لاؤور، صاحب العمود الدائم في صحيفة «هآرتس» الصهيونية، ومن غير المستبعد أنه كذلك، وخصوصاً في منطق الليبراليين الجدد من العربان تلاميذ المحافظين الجدد الصهاينة، الذي يستحيل فيه الليل نهاراً والشمس ثقباً أسود، بل وحتى إنه من غير المستبعد أن بعض مواقفه متقدمة على مواقف بعض المشاركين والمشاركات في الكتاب، لكن هذا لا يعني شيئًا في ظننا، لأن جوهر المسألة ليس فقط الكاتب الإسرائيلي، بل الرسالة التي يحملها للعبور إلى تل أبيب.
ولكي لا تختلط الحقائق عن تلك التقدمية المزعومة بالهرطقات في ذهن القارئ غير المطلع على أبعاد المسألة، فإن لاؤور هذا حاز جائزة الدولة الصهيونية مرتين، وهي التي لا تمنح إلا لمن خدم الكيان الاستيطاني ــ العنصري بقلبه وعقله ومن دون أي تحفّظ!
نعلم أن هناك إسرائيليين كثيرين معادين حقاً للصهيونية ويعلنون موقفهم هذا جهاراً، ليلاً ونهاراً متحدِّين الأخطار ومضحّين بمصالحهم وبحرياتهم الشخصية، ويتمسكون بحق عودة الشعب الفلسطيني إلى وطنه الذي طرد منه بالقوة، واستبدال الدولة الفلسطينية الديموقراطية العلمانية بالكيان الصهيوني الغاصب.
واضح أن الهدف الوحيد لنشر الكتاب الترويج لمقولة الشرق الأوسط الاستعمارية، والادعاء بأن تل أبيب ليست عاصمة كيان عنصري بل إحدى عواصم الشرق الأوسط، القديم الجديد؛ فالعين على تل أبيب. وعندما تجرّد الأخيرة من صفتها الحقيقية، أي كونها عاصمة كيان عدواني مغتصب تشع منه العنصرية والكراهية لمحيطه، فإنها تصبح مدينة، مثل كل المدن، والأخيرة كما نعرف، مصيرها في نهاية المطاف التوأمة. هذه هي الرسالة الحقيقية لهذا الكتاب الذي لا يتخفى وراء ادعاءات أو تعبيرات متلعثمة.
إن الاستنكار اللفظي، رغم أهميته، لا يكفي، والسكوت عن هذه الكتابة التطبيعية سيفتح أوسع الأبواب أمام المطبّعين الجدد والقدامى للتمادي أكثر في درب محاولة فتح أبواب أوطاننا وعقولنا للعدو وهي التي استعصت عليه إلى يومنا هذا، وسيصير مقياس «تقدمية» المواقف مدى تقبّل فكرة وجود تل أبيب المدينة الشرق أوسطية في بيوتنا وشوارعنا ومدننا.
يجب التصدي لهذه تصدياً حاسماً واضح المفردات والتعبيرات والخطوات العملية، ومن دون أي مجاملة كانت ولأي كان، ليعلم كل من لا يعلم ومن لا يريد أن يعلم أن فلسطين رغم أنف كل المستسلمين اللاهثين وراء بركات العدو، وطن شعب متمسك بأرضه وأرض آبائه وأجداده، منذ البدء وإلى ما لا نهاية، عاش فيها ومات فيها واستُشهد فيها ودفن فيها، وأن فلسطين ليست مطيّة مَن أعمتهم مصالحهم الشخصية الضيقة لتحصيل مادي دنيء وشغل مواقع لا يسعد الشرفاء أن يتبوؤها. وليعلم أيضاً كل من يهمه الأمر ومن لا يهمه الأمر أن التطبيع مع العدو الصهيوني الغاصب ليس وجهة نظر، بل يقع تحت بند المحرمات الوطنية والقومية.
* كاتب فلسطيني