سعد الله مزرعاني *هذا مع العلم أن واشنطن كانت تردد حيال القيادة السورية مطالب إسرائيل، أو مطالبهما المشتركة، بشأن طرد قادة «حماس» و«الجهاد» و... من دمشق، وبشأن قطع سبل الدعم عن «حزب الله» في لبنان، وبشأن وقف «دعم الإرهاب» عموماً. كان الثمن الذي جنته القيادة السورية (والإيرانية بهذا الشكل أو ذاك)، هو مجرد قبول واشنطن بالكف عن رفع شعار إسقاط النظام السوري، والقبول بإجراء اتصالات ولقاءات مع دمشق (وطهران بشكل أوسع)، حرصت واشنطن على أن تبقى محصورة في الشق الأمني دون سواه. ولم يكن ذلك ترجمة حقيقية لتوصيات «لجنة بيكر ـــ هاملتون» بشأن إقامة حوار مع كل من القيادتين السورية والإيرانية بشأن العراق.
ما كان هو مجرد اتصال، فرضه ميزان قوى أجبر واشنطن على السعي إلى عقد لقاءات مع كل من إيران وسوريا (في نطاق اجتماعات دول الجوار العراقي، وثنائياً في مرحلة لاحقة).
بيد أن إصرار واشنطن على حصر العلاقة مع دمشق في الشق الأمني، لم يقابله إلا إصرار هذه الأخيرة على توسيعه إلى الشق السياسي، ولو اقتضى الأمر، أحياناً، تقديم تنازلات غير ضرورية في موضوع كالملف الفلسطيني مثلاً.
لقد كانت مشاركة دمشق في لقاء «أنابوليس» أواخر عام 2007 ترجمة للاستعجال السوري في رفع العلاقة مع واشنطن إلى المستوى السياسي. وهو ما ظلت إدارة بوش ترفضه رغم كل صعوباتها وعثراتها، في العراق خصوصاً، وفي المنطقة عموماً (وتحديداً بعد فشل العدوان الإسرائيلي ـــ الأميركي على لبنان في تموز من عام 2006). أشرنا إلى الطابع الأمني الذي اختارته الإدارة الأميركية في علاقاتها مع سوريا، لنقول إن غارة يوم الأحد الفائت على قرية «السكرية» السورية (منطقة «البوكمال» الحدودية)، لم يكن استمراراً بسيطاً لهذه العلاقة. لقد أرادت واشنطن، في الواقع، تمرير رسائل عدة دفعة واحدة:
ـــ الأولى إلى الناخب الأميركي، من أن واشنطن لا تزال تملك زمام المبادرة في العراق، وأنها، بعد تحقيق تحسينات في المستوى الأمني، بدأت في مطاردة خصومها وضربهم في عقر دارهم أو في قواعدهم التي ينطلقون منها. وتستجيب هذه الحادثة لمقولة يرددها المرشح الجمهوري جون ماكاين، تأخذ على خصمه الديموقراطي باراك أوباما، أنه في مواقفه، يحبط الجنود الأميركيين ويهدد حياتهم، وحتى يعرضهم للجوع، عبر التقتير والتأخير في إنفاق الموازنة الضرورية لذلك.
ـــ والثانية، موجهة إلى الجيش الأميركي نفسه، فهذا الجيش يعاني الإحباط وتتزايد في صفوف جنوده أرقام عدد المنتحرين، ويتنامى لدى ضباطه الشعور بالعجز وعدم القدرة على خوض معارك كبيرة أو جديدة، في العراق أو في سواه من العالم.
ـــ والثالثة، رسالة موجهة إلى خصوم أميركا في المنطقة، وإلى حلفائها، على حد سواء. فإلى الفئة الأولى، للقول إن واشنطن ما زالت قادرة على الإمساك بزمام المبادرة العسكرية، وهي حتى في هذه المرحلة الانتقالية، قادرة على اتخاذ قرارات جديدة ومؤثرة في المجالين السياسي والعسكري. أمّا بالنسبة إلى الحلفاء، فهي رسالة تطمينية، بأن واشنطن لم تضعف إلى الدرجة التي تسمح لأعدائها بتطوير نجاحاتهم ضدها وضد حلفائها. فمعروف أن واشنطن قد عانت في هذه الفترة أيضاً من وطأة أزمة انهيار مؤسساتها المالية الكبرى، مما أضاف إلى مشاكلها مشكلة كبرى جديدة، تمس أيضاً بجوهر دورها في المجال المالي والاقتصادي، بعد العسكري والأمني، بسبب فشل مشروعها الذي حمل اسم «الشرق الأوسط الكبير».
ولا شك أيضاً في أنّ للعدوان الأميركي على سوريا وظيفة في تدارك بعض الانعكاسات السلبية للأزمة الداخلية الإسرائيلية على الأوضاع المتحولة في المنطقة في غير مصلحة واشنطن وحلفائها. كذلك، لا شك في أن الغارة الأميركية، تمثّل تحذيراً سافراً للعدد المؤثر والمتزايد من الدول الأوروبية الذي سارع الى استئناف العلاقات مع دمشق، بما في ذلك «الحليف الموثوق» البريطاني. وتشاء الصدف أن تأتي ردود وزير الخارجية السوري على الغارة الإسرائيلية، من قلب العاصمة البريطانية لندن!
وثمة هدف أساسي، مهم هو الآخر، وهو موجّه إلى المسؤولين العراقيين الذين يتردد عدد متزايد منهم في توقيع المعاهدة الأمنية الأميركية ـــ العراقية أو يطالب بإدخال تعديلات عليها.
ويدور الحديث هنا عن ضرورة تحديد موعد الانسحاب (عدم إبقائه مرهوناً بالحاجات الأمنية المتحركة)، وكذلك الخلاف على وظيفة هذه القوات ودورها وعلاقاتها مع السلطات السياسية والأمنية العراقية، وكذلك حدود الصلاحية لهذه القوات حيال الأنظمة العراقية والسيادة العراقية. وفي هذا المعنى، فإن هذه العملية تطمئن المسؤولين العراقيين إلى قدرة واشنطن على الحد من تأثير اعتراض دمشق وحليفتها طهران على المعاهدة، وتمثّل أيضاً تذكيراً بقدرة واشنطن المستمرة على الردع والهجوم معاً، رغم الصعوبات والانتخابات والإخفاقات. هل ستنجح إدارة بوش في تحقيق كل هذه الأهداف؟
يمكن القول إنّ بعض النجاح قد تحقق بالفعل، وفي غير مكان. فقد انعكست الغارة، ولو بشكل محدود، لمصلحة ماكاين. كما اتّسم رد فعل بعض المسؤولين العراقيين بشيء من الوقاحة في تبني الغارة وتبريرها، وفي تحميل مسؤولية حصولها للسلطات السورية التي لم تستجب للمطالب الأميركية ـــ العراقية بقمع مدبّري عمليات التسلل إلى العراق بهدف القتل وزرع المتفجرات.
ويجب القول أيضاً إنّ الغارة كشفت ثغرات واضحة في منظومة الدفاع والتوقع السورية. ففي ظروف أخرى، كان يمكن ربما منع واشنطن من الإقدام على تنفيذها، وتدفيعها الثمن الطبيعي إذا هي أصرت على ذلك. نقول ذلك عموماً، رغم أن أمر المجابهة يبقى محفوفاً بالكثير والخطير من التعقيدات والتوازنات غير الملائمة لدمشق، في مواجهة تفوق أميركي ـــ إسرائيلي حاسم عندما يتعلق الأمر بالقدرات العسكرية التقليدية لكلا الطرفين. لكن مجابهة هذا العدوان ليست محصورة في الرد عليه خلال عملية تنفيذه. فالرد الأساسي هو الذي يجب تنظيمه بعد هذا العدوان. ويحيلنا ذلك إلى تفحص الوضع العام للمجابهة في السنوات الخمس الماضية. كانت ثمة نجاحات ولا شك. لكن كان ثمة أيضاً ارتباك، وكانت الثغرة الأكبر هي غياب استراتيجية متكاملة لمواجهة الغزو الأميركي للمنطقة وللعراق.
لن تُدخل نتائج الانتخابات الأميركية تحولات جذرية على صراعات المنطقة: لا في الشق المتعلق باستمرار سعي الإدارة الجديدة إلى محاولة تعزيز النفوذ الأميركي والمصالح الأميركية فيها، وبكل الوسائل، ولا لجهة استمرار دعم الصهاينة في عدوانهم المستمر على الشعب الفلسطيني وحقوقه وعلى شعوب البلدان المجاورة، ومنها سوريا ولبنان. المسألة تصبح في كيفية بناء خطة جذرية في مواجهة مشروع عدوان وسيطرة وهيمنة مستمر، أقل ما يُقال فيه إنه وصل إلى حد شن حربين في المنطقة العربية وحدها، خلال السنوات الخمس الماضية!
* كاتب وسياسي لبناني