علاء اللامي *لم تخرج مواقف أصدقاء الاحتلال أو أعدائه في العراق، على السواء، عما هو منتظر ومتوقع بخصوص الاتفاقية الأمنية المسماة «اتفاقية تنظيم القوات / سوفا»، فيما استمر الصمت المريب بشأن موضوع الاتفاقية الأخرى المسماة «اتفاقية الإطار الاستراتيجية»، التي يبدو أنها الأخطر، ويراد إمرارها بهدوء مع تسليط الأضواء والضجيج على اتفاقية «سوفا» الأولى تلك.
لم تخرج تلك المواقف عن المتوقع والمألوف، فأصدقاء الحكم في مؤسسات دولة المحاصصة الطائفية تقاسموا الأدوار على الشكل الآتي:
ــ الأحزاب القومية الكردية أعلنت تأييدها الحاسم وغير المتحفظ على الاتفاقية، وهاجمت الرافضين لها، وغمزت من قناة المتردّدين. أما الأحزاب الإسلامية الكردية، فلم يصدر منها ما يفيد التصنيف خيراً أو شراً.
ــ الأحزاب المتحالفة ضمن قائمة «الائتلاف الموحد»، تقاسمت الأدوار هي أيضاً، فمسؤولو حزب المجلس الأعلى تناوبوا على مواقف عدم القبول والقبول والتريث والدعوة لتعديلات جديدة على الاتفاقية، واستقروا أخيراً على الموقف الأخير الرافض لسبع فقرات أو بنود من المعاهدة، في محاولة لتبليع الاتفاقية للرأي العام بالتقسيط، وشرعنتها، مع استمرار صدور مواقف متباينة لنواب ومسؤولين من الصف الثاني منه.
ــ حزب نوري المالكي «الدعوة»، أكد كما دأب أن يفعل بمناسبة أو بدونها، دعم الحكومة في مواقفها، واستمرار إنتاج العبارات والنصوص الإنشائية العديمة المضمون الجدي.
ــ « جبهة التوافق» تباينت مواقف أطرافها، فثمة من أيّد الاتفاقية بتحفظ، وثمة من دعا إلى التريث. أمّا الموقف الرسمي للجبهة، فقد تغير كما قال مسؤول كبير فيها ونقلت الصحف، من الموقف المحايد والأقرب إلى التأييد، إلى التحفظ والمطالبة بتعديلات.
ــ الحركة الوطنية العراقية التقليدية، أو ما بقي منها، ظلت في حالة يرثى لها من التشرذم والتعادي والاحتكام إلى احتكار الحكمة والصفة والموقع والتنابذ بالألقاب. نتكلم هنا عمن لم يلتحقوا بقافلة المدافعين عن الاحتلال أو الناكرين أصلاً لوجوده، فأولئك لهم وضعهم المعروف، مع ملاحظة مقدار الصلف الأقرب إلى الانفلات من كل وازع، الذي تميزت به كتابات الليبراليين الجدد والشيوعيين «السابقين». وقد تصلح الصرخة التي أطلقها كاتب «شيوعي سابق» على شكل مقالة تحت عنوان هستيري يقول «الاتفاقية أو الطوفان!» للتعبير عن هذا الانفلات.
ــ أما القوى المناهضة للاحتلال بالنشاطات السلمية والمسلحة، فهي ليست في أفضل أحوالها أيضاً، ولعل المشهد المضحك المبكي التالي في معسكر المناهضين للاحتلال يعطينا فكرة أولية عن واقع حال هذا المعسكر: حزب البعث / جناح الدوري أصدر قبل فترة قائمة بأسماء من سماهم «الخونة عملاء الاحتلال»، نجد بينهم أسماء وصور مقتدى الصدر وبعض إخوانه القادة في التيار الصدري، والقابعين في زنازين الاحتلال كالشيخ عبد الهادي الدراجي، فيما لا يترك بعض قادة التيار الصدري فرصة سانحة دون أن يكرّروا فيها تكفيراتهم ولعناتهم للبعثيين. وهذا مجرد مثال مأساوي يشير إلى العقلية الشمولية التي أنتجت هذه المواقف وأخَّرت، وسوف تؤخّر اندحار الاحتلال النهائي واستعادة استقلال العراق!
الأخطر من هذا وذاك، هو الأصوات النشاز التي بدأت تعلو في الوسط المناهض للاحتلال، والتي قال بعضها صراحة إنه سيكون مع توقيع الاتفاقية الاستعمارية لأن إيران ضدها. لقد هوجمت إيران خلال الأيام الماضية من بعض الساسة والكتّاب والإعلاميين بضراوة لم يُهاجَم بها الاحتلال الأميركي ذاته طوال سنوات الاحتلال، وسارع المهاجمون إلى وصف مواقف الحكومة الإيرانية بأنها «تكتيكية» وأنها «منافقة» وبأنها «متفاهمة في العمق مع الاحتلال الأميركي».
وهذه وجهات نظر لا يمكن نفيها أو تأييدها كليّة، مثلما لا يمكن الدفاع عن الحكم الإيراني بإطلاق القول، فمصالح هذا الحكم المعادية للمصالح الوطنية العراقية وحتى للهوية العراقية العربية واضحة وقديمة. غير أن هذا أمر يمكن فهمه وتفهمه ضمن رسم الاستراتيجية الوطنية المناهضة للاحتلال ككل، أما التخندق في خندق الغزاة الأميركيين والدفاع عن مشروعهم الاستعماري المتمثل في اتفاقية «سوفا»، فأمر آخر لا يمكن تبريره أو حتى السكوت عنه. ولعل خير سؤال يمكن أن يوجّه إلى الساسة القائلين بأن موقف إيران المعادي لتوقيع الاتفاقية تكتيكي، وأنه إنما يأتي دفاعاً عن مصالح إيران، وبالتالي فهو ضد مصالح العراق، هو: هل من الحكمة التفريط بقوة إقليمية معادية للاتفاقية الاستعمارية حتى ولو كانت مواقف تلك القوة تكتيكية الطابع والأهداف، والوقوف في صف المحتلين ومعاهدتهم؟ وهل من الصواب ترك الميدان للاحتلال ولإيران وحلفائها في الساحة العراقية يتصارعون حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً؟ وبماذا سيخرج هؤلاء المتفرجون يومها في الحالين، أعني في حال إذا ما انتهى الصراع بهزيمة الاحتلال وفوز إيران وحلفائها، أو بفوز الاحتلال وفرضه للمعاهدة المشؤومة؟
هل يمكن القوى الراكضة اليوم نحو خنادق الأميركيين أن تتصور عواقب مواقفها تلك يومئذ وحالتها السياسية والشعبية؟ وهل سيكون ممكناً حينها معالجة ما حصل من كارثة وطنية تعلن عن نفسها اليوم بكل وضوح وجلاء بواسطة إبداء الندم والنقد الذاتي؟ أليس من السفاهة الخروج من حماقة استراتيجية سياسية للوقوع في أخرى تليها وتشبهها في العمق؟
قضية مهمة أخرى صار من المفيد طرحها في ضوء النقاشات بين صفوف الاستقلاليين العراقيين، ألا وهي ضرورة تطوير موقف منسجم وعملي من مجموعة البرلمانيين التي بات اسمها «مجموعة 22 تموز»، والتي تألّفت خلال معركة الدفاع عن عراقية محافظة كركوك وإقرار المادة الخاصة بالانتخابات المحلية.
الموقف المأمول ينبغي ألا يخرج على الثوابت التي تعتبر مجلس النواب الحالي «ناقص الشرعية» بسبب الانتخابات التي أوجدته، وقد جرت تحت الاحتلال في ظروف تزوير وانعدام شفافية اعترف بتلك النواقص الاحتلال نفسه. موقف يعترف بالطابع الوطني العام الذي اختطتّه هذه المجموعة من النواب في مبادراتها وموقفها المناوئ للاحتلال والطائفية والتقسيم.
يقع على المناهضين للاحتلال وفصائل المقاومة الوطنية والإسلامية غير الملوثة بجرائم التكفيريين في تنظيم «القاعدة»، واجب دعم تلك المجموعة وتطوير أدائها وصولاً إلى بناء قوة سياسية داخل البرلمان رافضة للاتفاقية الأمنية ومطالبة برحيل الاحتلال دون قيد أو شرط.
* كاتب عراقي