صباح علي الشاهر *أباطرة النفط في العالم يعرفون هذه الحقيقة قبل أن يعرفها العراقيون ذاتهم. وكان من الطبيعي والمنطقي أن يكون العراق أول بلد مُنتج للنفط وأكبرها في العالم، لكن ما هو طبيعي ومنطقي لم يحدث. فمنذ أن أقدم العراق على تأميم نفطه باتت قضية استثمار حقوله العملاقة مؤجلة، ثم أدخل العراق في مسارب لا يمكن له أن يخرج منها سالماً معافى.
أصبح البلد عاطلاً مُعطلاً، محصوراً ومُحاصراً، ومن ثم مُحتلاً. حتى حصته لم يستطع أن ينتجها، فحوّلت لغيره، وستبقى قضية استثمار احتياطي النفط العراقي الهائل مؤجلة إلى أن تقع الثمرة في فم من ينتظرها، وقد حان أوان ذلك.
لكن العراق ليس أول بلد في احتياطي النفط في العالم فحسب، بل هو أول بلد في احتياطي الغاز أيضاً، إذ يقدر الخبراء الثابت منه بأكثر من 112 تريليون متر مكعب. ومثلما يتوزع وجود احتياطي النفط على كل جهات العراق، فكذلك الأمر بالنسبة لاحتياطي الغاز.
مستقبل اقتصاديات الغاز باهر، حيث تسير بالتوازي مع اقتصاديات النفط، وسيُحوّل تدريجياً العديد من استعمالات الطاقة من النفط إلى الغاز، لأسباب منها مستلزمات بيئية وأخرى مالية. ومثلما عرفنا في القرن المنصرم ما سُمي باقتصاديات النفط، سنعرف خلال هذا القرن ما يُسمى اقتصاديات الغاز.
صحيح أن الغاز والنفط هما مصدران للطاقة، وغالباً ما يكونان في البقعة الجغرافية نفسها، وأحياناً يكون الثاني نتاجاً عرضياً للأول، إلا أن هذا التشابه إذ يجمعهما باقتصاديات أعم هي اقتصاديات الطاقة، فإن هناك العديد من الفروق التي ستجعل لكل منهما مجالاته الخاصة.
لن نبتعد عن الموضوع لو أشرنا إلى أزمة الطاقة في أوروبا، بعد تغيّر الموقف من روسيا أهم بلد مصدّر للغاز، وبالأخص بعد حسم الصراع في القوقاز لمصلحتها. أوروبا تشعر بالقلق الجدي، لذا فهي ستتجه لمصادر إمداد الغاز من مناطق أخرى. صحيح أنها تتزوّد حالياً بغاز الجزائر وليبيا، وبحر الشمال، ومصادر أخرى، لكن كل هذه لا يمثّل أماناً لأنها أقل من احتياجاتها المتزايدة باستمرار.
الغاز الروسي أصبح عامل ضغط، وغاز أواسط آسيا لم يعد مضموناً. إذاً لا بد من مصادر الغاز في الشرق الأوسط. مصادر الغاز في الشمال الأفريقي مستثمرة، والغاز المصري لا يمثّل ثقلاً، والقطري موزّع عالمياً، وهو لا يمثّل ضمانة، إذاً يظل أمامنا غاز العراق الواعد: تريليونات الأمتار المكعبة التي يزداد حجم مخزونها الموجود، وذاك محتمل الوجود. في هذا الغاز ضمانة ما بعدها ضمانة، لذا ليس غريباً أن يُصرّح مفوّض شؤون الطاقة في الاتحاد الأوروبي أن أوروبا ستعتمد أكثر فأكثر على الغاز العراقي، وأنها ستصبح في غضون أقل من خمس سنوات أكبر مستهلك للغاز العراقي.
ضمانة إمدادات الغاز من العراق لا تعتمد على وعد وعهد تقطعهما حكومة هذا البلد مثلما حدث في بروكسل في نيسان الماضي، حيث وعدت الحكومة بتقديم 5 مليارات متر مكعب من الغاز المنتج من حقل أكاس في المنطقة الغربية كدفعة أولى، بل الضمانة الحقيقة بالنسبة لأوروبا أن تتعهد شركاتها بتوريد الغاز لأقطارها. ولأجل توافر مثل هذه الضمانة، يلزم أن تكون تلك الشركات العملاقة شريكاً أساسياً مع العراق في إنتاج الغاز وتوزيعه.
من هنا، ينبغي النظر إلى الاتفاق الأخير بين شركة نفط الجنوب (الحكومة العراقية) وشركة شل الهولندية ـــ البريطانية، وهو اتفاق «مشاركة في الإنتاج» تنتج الشركة بموجبه 700 ألف متر مكعب من الغاز المصاحب يومياً، تقسم على الشكل الآتي: 51 بالمئة للحكومة و49 بالمئة للشركة، ولمدة 10 سنوات قابلة للتمديد، لقاء استثمار مبلغ لا يتعدى الملياري دولار.
وبعملية حسابية بسيطة، وباعتبار أن سعر المتر المربع من الغاز بالأسعار الحالية هو 50 دولاراً، فإنّ الشركة ستجني ربحاً لا يقل عن سبعة مليارات دولار في سنة واحدة، هذا إذا ظل سعر الغاز على ما هو عليه، وإذا لم تنتج الشركة كمية أكثر. وبهذا، فإن الشركة ستحصل على عشرات مليارات الدولارات خلال فترة سريان العقد. والخاسر في عملية النّهب هذه هو العراق.
* كاتب عراقي