ثمة أماكن نرتبط بها ارتباطاً عاطفياً، ونبحث دائماً عن تفسير «منطقي» لتلك العاطفة. نقتنع أحياناً بأنها «موطن» ذكرياتنا الجميلة، وقد نجد للأمر تفسيرات متنوعة. «مسجد السلطان حسن» في القاهرة من أجمل ما في العاصمة المصرية، ومعه يمكن المرء أن ينسج حكايات جميلة
سيد محمود
كلما ذهبت
أسأل نفسي: لماذا أنا هنا؟
في المكان الذي اخترته قبل نحو 15 عاماً ليحمل اسمي. كانت لعبة نلعبها، أنا وزملاء في الجامعة اتفقنا على ذلك، يوم قررت لولا، صديقتنا المسلمة، أن تهاجر إلى سويسرا لتتزوج من رؤوف المسيحي. كان هدف اللعبة أن يسمّي كل واحد منا مكاناً في القاهرة باسمه لكي يتذكره الآخرون كلما مروا بالمكان. أفعل ذلك بإخلاص كلما مررت، أتذكر يوم سألتني لولا باستغراب: «فيه حد يختار جامع علشان يتسمى باسمه؟».
كان علي أن أبدأ الشرح لكي تقتنع بأن «جامع السلطان حسن» هو مكاني القاهري المفضل. بالتأكيد كان الزحام يوم دخلت فيها أقل، الآن لا يزال الزحام الذي يحيط بميدان القلعة، حيث المسجد غير قادر على إخفاء روعته، بل كأنه قائم ليؤكدها.
يمر الناس بسرعة، يلتفتون إلى المبنى الضخم، وربما انتبهوا إلى العشاق الذين يتبادلون الحب في الممر الواقع بين المسجد ومسجد الرفاعي المقابل له... تخرج عجوز مرتبكة من البوابة، يستوقفها شرطي مرتشٍ من جنود شرطة الآثار ليعرف سبب بكائها، شأن آخرين يجرّبون الطقس نفسه كلما مروا من هنا، لكن رغبته كانت صادقة في التخفيف عنها.
قبل أن أدخل، أجلس لأرتاح إلى جوار عاشقين في مسافة تسمح لي بالمراقبة والتلصص. أنظر إلى السماء فتأخذني رعشة لا أعرف مصدرها...
أقرر الدخول إلى المكان الذي تجمع المصادر التاريخية وكتب العمارة الإسلامية على أنه «البناء الأجمل»، إذ يعبر عن المدرسة المملوكية في العمارة كأفضل ما يكون، وهي مدرسة تعتمد أصلاً على الرشاقة في كل شيء، لا تهم ضخامة الحجم ولكن الأهم كما يقول شيخ عشاق القاهرة الصحافي كامل زهيري «هو اللحن الإيقاعي بين الحجم والارتفاع».
المتأمل في أشكال العمارة الإسلامية في مصر لن تفوته الملاحظة التي تخصّ المساجد الكبرى والتي تتّسم جميعها بالضخامة، فمن يقارن تلك المساجد على اختلاف عهودها، يجد أن المسجد كان يأخذ راحته في المساحة، ويطل على الجهات الأربع الأصلية، لكن «السلطان حسن» يختلف، لأن ضخامته لا تخفي البساطة الموحية التي في الإيوان.
في امتحان السنة النهائية في جامعة القاهرة لمادة الحضارة، طلبت مني الممتحنة الإجابة عن سؤال بشأن فكرة الوصل والانقطاع بين الحضارة الفرعونية والفتح الإسلامي. لم أقرأ كتابها المقرر لأنه كان سخيفاً بأكثر مما أحتمل، فقررت الابتكار ولم أجد غير مسجدي لأدلل به على عمق الارتباط بين الحضارتين المصرية والعربية، فالضخامة التي تميز مبناه لها أصل ولا شك في المعابد الفرعونية، المسجد في تكوينه الخارجي أقرب إلى المعبد منه إلى المسجد.
المكان عند بنائه كان قد أعدّ لتدريس المدارس الفقهية، واستمر العمل فيه لمدة 3 سنوات بغير انقطاع حتى قتل السلطان حسن سنة 762 هجرية (1360 ميلادية) بعد مؤامرات عديدة صاحبت جهده في تأسيس المسجد. الرجل حين تولى الحكم لم يكن سنّه تزيد عن 13 عاماً، وخُلع لسنوات تفرّغ خلالها لطلب العلم، وكتب بخط يده «نسخة من كتاب دلائل النبوءة»، وعندما عاد للحكم شرع في بناء المدرسة والمسجد قبل أن يُقتل.
قد لا تكون صيحات البكاء التي تتردد في المسجد من المحتاجين وراغبي اللجوء إلى الله إلا صدى للتراجيديا التي شهدها المكان بعد مقتل صاحبه، فقد «عُطلت وظائف المدرسة حين اتخذ منها المماليك حصناً يدافعون منه عن أنفسهم ضد أعدائهم في القلعة.
وظلت هذه الحال حتى تولى الحكم في مصر السلطان المؤيد عام 825 هجرية، وأمر الناس برفع الأذان فيها، ثم جاء «طومان باي» وعمّرها قبل أن يقرر والي مصر العثماني سليم آغا تطويرها، فكان ينفق يومياً ما قيمته عشرون ألف درهم، وقال «لولا أن يقال إن ملك مصر عجز عن إتمام بناء بناه لتركت بناء هذا الجامع من كثرة ما أنفقت عليه». وتؤكد بعض المصادر التاريخية أن السلطان العثماني سليم الأول بعد غزو مصر زار المبنى وصرخ «إنه الحصار».
يحلو لي كلما مررت تذكر ما كتبه يحيى حقي عن المكان: «لا شيء في العمارة الإسلامية في القاهرة يداني هذا القوس الشاهق المحيط بالقبلة، لا بد لك أمامه من أن ترفع رأسك للسماء وأن تحس بأنك ارتفعت عن الأرض، وأن صدرك الضيق قد أصبح في حاجة إلى مثل هذا القوس العظيم، كأنه من عمل البرجل الذي قاس دائرة الفلاك ولكن أمسكت به يد إنسان خاشع لربه، ولكن الخشوع هنا أمام القوس غير مقترن بإغماء أو ضعف أو تخاذل أو ترقرق دمعة سهلة، بل مقترن بتفجر قوى النفس البشرية كلها بالنشوة والفرح وانبهار لا يصيبك بشلل بل يلهب طاقتك الروحية».
داخل المسجد تعرف أن المبالغ التي أنفقت على بنائه أقل من تأمل روعته، فالعمارة الخارجية له تتكون من أربع واجهات تتوّجها شرفات مسننة، أولاها شرفة رئيسية بها 12 دخلة ذات صدور مقرنصة بكل منها شبابيك، وتنتهي الواجهة بست حطات.
وعندما تمر إلى الداخل لا حيلة لك إلاّ تأمل الإيوان الكبير ومنبره الرخامي الذي لا نظير له، فالرحالة المغربي الورتلاني يقول بلا تردد «إنه مسجد لا ثاني له»، ربما لذلك يرتاده الناس كلما حاصرتهم الحاجة، منهم من يقرأ القرآن، ومنهم من ينام في ساحته طلباً للراحة، ومنهم من يترك نفسه في مواجهة السماء مباشرة، لأن المسجد بلا «سقف»، ولهذا تشعر وأنت داخله أنك «مع الله» مباشرة.


مآذن المدينة


زائر القاهرة، إذ تطأ قدماه أرضها للمرة الأولى، ستلفته مساجدها العديدة، كانت العاصمة المصرية تشتهر بأنها مدينة الألف مئذنة، وقد ارتفع هذا العدد كثيراً في السنوات الأخيرة. إلّا أن زائر المساجد القديمة ستجذبه تلك الموزاييك المتشكلة من أنماط معمارية مختلفة، كل مسجد ينتمي إلى حقبة معينة من التاريخ الإسلامي، كأن هذه المآذن تكتب جزءاً من حكاية مصر، وتشهد على بعضٍ من ذاكرة العاصمة.