بعد المدرسة، كان الطفل يتجه مباشرة إلى سينما «ريكس» إلى أن ربح المواجهة مع أهله وعمل كمشغّل فيها. اليوم، بعد عمله 55 عاماً مصوّراً فوتوغرافياً على «بلاتوهات» السينما، يملك «الحاج نقولا» أرشيفاً من صور السينما العربية في مخزن منسيّ في الأشرفية
رنا حايك
تغطي الصور جدران الأستديو الصغير. عبد الوهاب وفريد الأطرش وبديعة مصابني وجورج حنكش والأخوين رحباني في بهو فندق. يشع بياض بشرة «الصبوحة» وابنتها هويدا من إطارات مذهبة عدّة، مبعثرة على الرفوف، بينما تطلّ السندريلا بابتسامتها الحزينة من الجدار المحاذي للدرج. مستحيل أن تدور حدقة العين سدى في ستديو الحاج نقولا وأخيه «غاندي». فكيفما اتجهت، ستصطاد لحظة تؤرّخ لــ«الزمن الجميل». وستصدر أمراً تلقائياً للفم بالانفراج عن ابتسامة «نوستالجيا» هادئة سرعان ما يقطعها «الحج» نقولا، كما يلقب كل حامل للاسم في لبنان، بالترحيب. ليبدأ حديثاً ساحراً تلهث خلاله وراء التفاصيل: فهنا، تصبح أصغر المشاهد التي تختزنها ذاكرة الحاج المتكئ على عتبة السبعين، ذات قيمة، إذ يتداخل الشخصي مع تاريخ صناعة كاملة.
يذكر الحاج نقولا فيلم «سينما باراديزو» الكلاسيكي عن ذلك الطفل الذي «ندهته» قاعة السينما في قريته النائية، وعمل فيها «مشغّلاً» إلى أن كبر، فغادرها إلى عالم الصناعة السينمائية الأوسع.
يضحك كثيراً إذ يقيم المقارنة: ففي عاليه، حيث نشأ، كانت هناك 12 داراً للسينما. كان في الثالثة عشرة من عمره حين غيّر عاداته اليومية: بدل أن يأتي كل يوم إلى السينما، بشنطته المدرسية، بعد جرس الانصراف، قرّر الاستغناء عن ..الجزء الأول من نشاطه اليومي وسط احتجاج ذويه. هكذا، تفرّغ للعمل كمشغّل أفلام في سينما «ريكس»، وبعدها في سينما «ميامي». غذّى هذا العمل اليومي خيال الصبي، وهيّأه للعمل مصوّراً. فالتقنيات التي كان يعتمدها لتحديد «الكادر» والتحكم في ألوان الصورة عوّدته التزام الدقة. كان العرض يعتمد على «الفحم» لا على «اللمبة». فكان «القوس» الذي يتحكم المشغّل في مستوى التجاذب بين طرفيه، هو الذي يحدّد كمية الضوء في الصورة. كذلك لقنته المرآة التي كانت تعكس المشهد على جدار السينما، أهمية الدقة اللامتناهية في الحفاظ على «الكادر». النظر إلى تعابير وجه الممثل عن كثب كان له دور كبير أيضاً في تنبيه حواسّه وعينيه إلى ضرورة التقاط الحالة والمزاج في أية صورة سينمائية.
بعد سينما «ميامي» كانت ليبيريا. فقد استدعاه أحد المغتربين ليشغّل له سينما افتتحها هناك. لكن الغربة لم تدم لأكثر من 3 سنوات عاد بعدها «الحاج»، كما سيختصر لاحقاً «أهل الفن السابع» اسمه، ليلتحق بأخيه جورج الذي درس التصوير في باريس، وأخيه الثالث غاندي، ويفتتحوا معاً استديو خاصاً في الأشرفية، ومرحلة انغمس طوالها ثلاثتهم في مهنة التصوير السينمائي.
كان نقولا في أواخر العشرينيات من عمره حين بدأ هذه الرحلة التي تضافرت الظروف الموضوعية جميعها لإثرائها: فقد كان ذلك في الستينيات التي مثّلت امتداد العصر الذهبي للإنتاج السينمائي، وأزهرت فيها مواهب «نجوم الزمن الجميل». كان الفيلم الأول الذي انتقل به الحاج من «التّحكم في الكادر» من الغرفة الخلفية المظلمة إلى داخل المشهد السابح بأضواء «البلاتوه» الساطعة فيلماً من إخراج من يطلق عليه الحاج لقب «أب السينما اللبنانية»، المخرج محمد سلمان «كان الفيلم اسمه «موال» وكان من بطولة صباح. وفي أحد المشاهد، استغرقت الصبوحة في ضحكة لم تستطع كبحها، فصرخ سلمان: CUT! وسألها لمَ تضحك فقالت له: ولك الحاج نقولا مهضوم، ما فيي ما حركش فيه».
كانت مرحلة بيروت الستينيات الذهبية: لم تكن الحركة لتنقطع في «ستديو بعلبك» و«ستديو هارون» و«الاستديو العصري». تتالت الأفلام التي وثقها الحاج ووثّق لأبطالها: منها المحلي ومنها العالمي: «وادي الموت»، وبطلته الإيرانية «ذات الشعر الذهبي الذي كان يلمع في العدسة»، تبعه الجزء الثاني منه الذي صوّر في الأردن، ما سمح للحاج بزيارة القدس عام 1966.
ساعد عمله كمصور لديه خلفية سينمائية، المخرج الراحل مصطفى العقاد على اختيار ممثليه وتقسيم الأدوار عليهم في فيلمه التاريخي الأشهر «الرسالة». في هذا الفيلم أدى ريمون جبارة دور شاعر «كان من الصعب إعطاؤه دور فارس على حصان»، كما يقول الحاج ضاحكاً.
صوّر الحاج على بلاتوه فيلم يوسف شاهين «رمال من ذهب»، بطولة فاتن حمامة، وأثناء تصوير أفلام نهاد قلعي ودريد لحام، كما صوّر أشهر الأفلام الغنائية الاستعراضية المصرية «أبي فوق الشجرة». يشير إلى صورة تضم عبد الحليم وناديا لطفي ووحيد فريد وحسين كمال أمام أعمدة بعلبك «هاي برنيطتي اللي لابسا عبد الحليم. صوّرته لحاله وهو لابسها فصارت صورته الأشهر. كان كتير مهضوم بس جامد. عنده حزن دفين. كان لازم زكزكه وهزّه تآخد له صور حلوة».
كانت مسيرة طويلة ومتعبة. ساعات طويلة في مواقع التصوير ومواعيد لم تكن دقيقة إلا حين شارك «الحاج» في تصوير فيلم أميركي. لم ينقطع العمل خلال سنوات الحرب الطويلة. أما آخر فيلم، فكان كئيباً «أماني تحت قوس قزح» للمخرج سمير خوري، بطولة الطفلة ريمي بندلي، عن الحرب. بعدها، سافر جورج وتفرّغ الحاج نقولا وغاندي لإدارة الاستديو وتصوير الأعراس.
«ما عم تحضر سينما؟». يجيب «أعوذ بالله! لو فيلم قديم بحضر، أما جديد فيفتح الله». وماذا عن تقنية الديجيتال؟ لا يحبها «الحاج نقولا»: «فيها تزييف وجمود. النيجاتيف أصدق ولا يتقنه سوى الموهوب الحقيقي. وإلا فكيف قدرت على أن أنقل من خلال الصورة الحالة والمزاج؟ وخصوصاً في مسرحيات شوشو التي صورتها كلها؟».
أما صورة السندريللا، فتعيده إلى ذلك النهار من عام 1969 حين قصدت سعاد حسني الاستديو ليأخذ لها بعض اللقطات. يومها، أقفل المحل حتى لا يحتشد المعجبون، واشترى سندويشات الكبة التي كانت تعشقها من مطعم «دفوني» المحاذي لمحله، وتناولا الغداء معاً. «كانت مرحة جداً، طلعنا سوا مرة بالقطار من مار مخايل حتى عاليه. ما وقّفنا ضحك طول الطريق».
صورة السندريللا واحدة من بين آلاف الصور التي يملكها الحاج. يودعها المخزن بانتظار أن يلتفت إليها المعنيون. لم يستجب للجمعيات التي عرضت عليه المساعدة في الحفاظ عليها، فهو ينتظر وزارة الثقافة «هذا تراث له مرجعية فنية تعود لجميع الفنانين من جيلي. أمثّل هذا الجيل، وأطلب من وزارة الثقافة التحرّك للحفاظ على هذا الإرث الثمين».


«هات المراية يا حمدي»

يقاطعنا «غاندي» ليصوّر المقابلة رغم رفضه الانضمام إلينا. يوصي الحاج «بلّ شفافك». وينطلق الشقيقان في أداء مشهد يظهر مدى التواطؤ اللذيذ بينهما. يصرخ الحاج نقولا «هات المراية يا حمدي»، ليستغرق الشقيقان في ضحكة صافية طويلة. فهذه هي الجملة التي تنادي بها صديقتهما نبيلة عبيد «الماكيير» كل 5 دقائق خلال التصوير.