عبد الله محمّد«مَن هذا الشبح الراقد على الأرصفة والنمل يتجاذب مسبحته ومنديله وخُصل شعره؟
إنّه بردى. بردى؟ لا أذكر أحداً أو صديقاً بهذا الاسم. أهو صندوق أم جدار؟ مولاي إنه بردى الذي ترافقه الزّهور العطشى من نبعه إلى مصبّه.
ليراجعني غداً في مكتبي القائم بين الأرصفة، علّي أن أجد له ميتماً بحرياً أو سحابة شمطاء تتبنّاه». (من قصيدة أمير من المطر وحاشية من الغبار ــ من ديوان الفرح ليس مهنتي لمحمد الماغوط).
أوّل مرّة قرأت فيها هذه القصيدة كان في أوائل الخريف والجوّ كان صحواً في سماء دمشق. انتهيت من القراءة وأنا جالس على أحد مقاعد حديقة السبكة.
تأمّلت طويلاً في العنوان وإذ بي أُفاجأ بقطرة ماء ترتمي في أوّل القصيدة تلتها أخرى في وسط القصيدة، فلم أستطع إلا أن أؤمن بأن السماء تبكي حزناً على بردى. جفّت عيونها من الدمع حزناً على وفاة بردى.
لو أنّ أمير المطر الذي تخيّله الماغوط على قيد الحياة، ماذا كان سيحصـل عندما يرى هذا الكهل والغربان تنهش أطرافه، تستعجل وفاته؟ الإجابة دُفنت للأسف مع كاتب القصيدة.
بردى هو مثال من أمثلة لا تُعد ولا تحصى من بقايا خدود دمشق الورديّة وعيونها الخضراء ولكن التجاعيد لفّتها والتهمتها سريعاً ومحت ملامحها.
كتاب الراحل عبد الرحمن منيف (ذاكرة للمستقبل) يتحدّث فيه عن شهادته الشخصيّة لمجموعة من الكتّاب والروايات والمدن التي تأثّر بها. من هؤلاء، الكاتب السوري صدقي إسماعيل شقيق الرّسام المشهور أدهم إسماعيل الذي كرّمته دمشق بإطلاق اسمه على أحد أهم معاهد الفن التشكيلي فيها.
صدقي إسماعيل هاجر مع أهله من لواء الإسكندرون إلى دمشق وأصدر فيها مجلة نقديّة ساخره اسمها «الكلب». يتناول منيف ذكريات صدقي إسماعيل المكتوبة عن دمشق في فترة الخمسينات والسّتينات بعناية شديدة، وكذلك ذكريات منيف الشخصيّة عن دمشق، يتذكّر ويذكّرنا بأيّام مقاهي المثقّفين الرائعه على ضفاف نهر بردى من الناحية الغربيّة للنهر في حي المرجة ومجموعة من المقاهي المشهورة مثل مقهى سقراط وقهوة البرازيل ومقهى القنديل في شارع 29 أيار الذي كان يملكه والد السّيدة حنان قصّاب حسن، وكان مركزاً لتجمّع مثقّفي النخبة وكذلك فندق فيكتوريا في حي المرجة الذي كان يستقبل أهم الشخصيّات من صنّاع القرار والفنّانين. وفندق الشرق في الحجاز الذي صيغت فيه مقرّرات لجنة كينغ ــ كراين التي اجتمعت في هذا الفندق مع عبد الرحمن الشهبندر وعدد من قادة ورموز سوريا في ذاك العصر.
وكانت السيدة فيروز والرحابنة أهم نزلائه في كل عام كانت تأتي فيه السيدة إلى دمشق منذ 1958 إلى 1977. ولم ينسَ طبعاً أشهر الخمّارات مثل خمّارة القط الأسود وخمّارة فريدي ومرتادي هذه الخمّارات وجلسات المصارحه العلنية والغناء ومقاهي الرّبوة على نهر بردى مثل مقهى أبو شفيق المشهور الذي كان سبب في اكتئاب ويأس محمد الماغوط من هذه الحياة، بعدما أغلق أبوابه.
كل عشّاق تلك الفترة حُفرت في وجدانهم الأمسيات الجميلة في مقهى أبو شفيق. كل هذه المعالم انتهت أو اندثرت، منها ما هدم ومنها ما حوّل لبنك أو مشروع تجاري ضخم. كل هذه المقاهي والبارات انتهت واندثرت ولم يبقَ منها غير الصور وبقايا ذكريات مختزنة في أذهان كبار السّن الذين يعانون ما عاناه الماغوط في أواخر سني حياته.
هنا يكمـن الجواب لكـل سائل وباحـث في سبب وفاة الماغوط همّاً وحزناً وفي عزلة مطبقة.