فيودور لوكيانوف *وليست القيادة السياسية وحدها من ينظر إلى عمليات الجيش الروسي والقيادة الروسية، بل غالبية المواطنين أيضاً، باعتبارها اضطرارية (لم يكن هناك خيار آخر) ومبررة كلياً، سياسياً وأخلاقياً، وحتى من الناحية القانونية. لهذا، فإنّ الرأي العام الروسي صدم حقاً إزاء ردود الأفعال في الخارج وبمدى التأييد الذي حظي به في الغرب ميخائيل ساكاشفيلي الذي انتهك جميع قواعد السلوك المتحضّر.
ويرى السياسيون والمواطنون الروس (وهذه المرة لا توجد اختلافات كبيرة بينهم) ذلك، حتى لا من باب اعتماد المعايير المزدوجة المميّزة لأية سياسة، وقاحة سافرة تتجاوز إطار الممارسة السياسية العادية.
ثانياً، وهذا يمثل نتيجة لما ذكرناه آنفاً. لقد حدث انعطاف مفاهيمي في السياسة الخارجية الروسية. فبالرغم من التعقيدات المتزايدة في العلاقات مع الغرب، كان الهدف الاستراتيجي لفلاديمير بوتين حين كان في منصب الرئاسة هو تكامل روسيا مع المنظومة الدولية ــــ اقتصادياً وسياسياً. وقد تغيّرت شروط هذا التكامل، وازدادت المطالب، لكن لم يلغِ أحد المهمة نفسها.
أما الآن، وكما تشير إلى ذلك كل الدلائل، فإنّ المهمة الأوّلية أصبحت الاستقلالية الاستراتيجية بدلاً من «الشراكة الاستراتيجية» مع هذه أو تلك من الدول أو المنظمات الغربية.
ولم تعد تطرح أكثر مهمة التكامل، بينما حدد بدقة وبحسم أكثر من أي وقت مضى، هدف توطيد مجال النفوذ من أجل تعزيز المواقع كـ«قطب مستقل» بشكل قاطع ودقيق في عالم متعدد الأقطاب. إن طرح المسألة بهذا الشكل لا يعدّ طرحاً معادياً للغرب، لكن سياسة موسكو لم تعد تتوجه محورياً نحو الغرب.
ومعنى ذلك أنّ الكرملين لم يعد ينظر إلى جميع الخطوات عبر عدسة تأثيرها في العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا.
ثالثاً، لقد تجلّت بحدة وجلاء مشكلة عدم وجود حلفاء مضمونين، والتي دار الكلام عنها منذ وقت بعيد. وعلى موسكو أن تصيغ مبادئ جديدة للعلاقات مع البلدان التي تودّ كسب دعمها. ويغدو تكوين حلفاء دائمين صعباً، بسبب قضايا موضوعية، هي تباين مصالح أية دولة عملياً في عالم العولمة.
وقد تجري المحاولة، لكن الاحتمال الاكبر هو إنشاء ائتلافات مؤقتة طبقاً للوضع، من أجل معالجة مسائل محددة، الأمر الذي يتفق أكثر مع خصوصية العالم المتعدد الأقطاب.
رابعاً، لقد أظهرت روسيا لأول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي أنها قادرة ومستعدة لاستخدام القوة العسكرية خارج أراضيها من أجل الدفاع عن مصالحها. وتنبثق أمام الدول المجاورة قضية كيفية ضمان أمنها. وتبدأ في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق «لعبة كبرى» حقيقية لا تعتزم روسيا التنازل فيها. إنّ استقطاب العلاقات الدولية يجعل من الصعب الرهان على تعدد الاتجاهات الذي، حتى الآن، ما زال يمثّل أساس سياسة جميع دول رابطة الدول المستقلة.
خامساً، لقد أظهرت التحركات الحاسمة لروسيا أن استراتيجية الغرب في مضمار الاستحواذ المنظّم على التركة الجيوبوليتكية للاتحاد السوفياتي قد استنفدت مفعولها.
كما تبرز أمام الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبيات مسألة محيّرة هي: إما اتخاذ موقف متشدد والتحوّل إلى اللجم الشديد لطموحات موسكو المتولّدة، وإما محاولة إيجاد توازن المصالح مع روسيا بالاعتراف بحقهّا في أخذ موقفها الخاص في مجال نفوذها.
وقد يختلف الجواب عن هذا السؤال كثيراً في العالمين القديم والجديد. ويمكن من الناحية النظرية الدخول في مناقشة بشأن تكوين منظومة أمن جديدة بمشاركة روسيا. وهذا بالذات ما اقترحه مدفيديف في الخطاب الذي ألقاه في حزيران/ يونيو عام 2008 في برلين. لكن يبدو من ردود الفعل الغربية أن هذا الاحتمال غير وارد اليوم عملياً.
سادساً، ظهرت مشكلة مفاهيمية في شأن العلاقات مع الولايات المتحدة. إنّ الولايات المتحدة دولة «عظمى» ذات طموحات كونية. وليس لدى زعيمة النظام العالمي مصالح ثانوية. ولا يجوز التضحية بأي شيء، كما لا يستحق الأمر بالنسبة إليها اتّباع سياسة التنازلات المتبادلة، لأنه إذا ما جرى «التراجع» في مكان ما، فقد تتوالى هذه التراجعات في كل مكان. أمّا محاولة الولايات المتحدة توطيد مواقع الزعامة لها عن طريق إظهار القوة والعزم على الدفاع عن جميع مجالات النفوذ الممكنة (في العالم بأسره)، فيمكن أن تؤدي إلى التصعيد الحاد.
سابعاً، سيشهد العالم في الأعوام المقبلة المرحلة النهائية لتفكّك المنظومة المؤسساتية السابقة، الأمر الذي ينطوي على حدوث هزات عنيفة للغاية.
إن المهمة الرئيسية للدبلوماسية العالمية تتكون ببساطة وبصرامة جداًً على أساس عدم السماح بنشوب حرب عالمية كبيرة جديدة. إن فرض مصالح جهة ما في غياب القواعد وتوازن القوى، هو الطريق المؤدي إلى الكوارث الخطيرة، ويجب على كافة السياسيين في العالم أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار دائماً.
* رئيس تحرير مجلة «روسيا في الشؤون العالمية»