مقابل يافطة تثير رعب الأولاد خطّ عليها اسم «المطّهر القانوني» المعتمد في شارع 73 بمنطقة «رأس النبع»، وأمام جامع «ذي النورين»، يجلس «عجوز» محاط بآلات بيانو. ينقر بأصابعه على أحدها، فيعيد «توزيع» الموسيقى التصويرية لهذا الحي الشعبي
رنا حايك
هو ليس عجوزاً تماماً، السيد عاصم العجوز. إنه في أواخر الخمسينيات من عمر قضاه في تصليح آلات البيانو وبيعها وفي العزف عليها «لما بكون متضايق ومعصّب» و«في سهرات أعياد ميلاد أفراد أسرتي». يريحه عزف التقاسيم الشرقية على هذه الآلة الغربية ويخفف عنه ضيقه. يتقنه رغم أنه لم يتعلّم «السولفيج» (السلّم الموسيقي) في حياته. أما أول أغنية تخطر على باله حين يسأل عن أكثر لحن يحب عزفه، فهي «سمرا يا سمرا» لكارم محمود.
ولد عاصم العجوز في أسرة صغيرة لوالد كان يمتلك على خط «كركون العبد» الذي أصبح اليوم «طريق الشام» محلاً للطباعة على «الدكتيلو» وللاتّجار بالبيانو.
«اعتزل» العلم وهو في العاشرة من عمره. لم يكن يحب المدرسة، فقد كانت ذاكرته، كما يقول، ضعيفة: «عدت السرتيفيكا 3 مرات وما نجحت»، يقول شارحاً استهواءه للأشغال الميكانيكية اليدوية التي بدأها من خلال تفحّص الآلات المودعة في متجر والده.
انتقل عاصم من المدرسة إلى متجر الوالد، عمل معه لمدة خمس سنوات، إتقانه العزف على الأكورديون سهّل له امتلاك «مفاتيح» البيانو، الذي كان يعزف عليه خلال أوقات الفراغ في محل الوالد.
كان «كركون العبد» صمّاماً حيوياً في جسد العاصمة، يربط الجبل بساحة البرج والجبل بالعاصمة، وكان «العجوز» أحد تجار البيانو القلائل في المدينة. إلى جانبه كان هناك «الغدراسي والحمصي وشاهين في «باب إدريس» فقط، ولم يكونوا يبيعون الآلات المستعملة بل فقط تلك الجديدة» كما يذكر.
كان سعر البيانو الأغلى يصل لحوالى 1300 ليرة في تلك الفترة، وكان العجوز يبيع حوالى آلتين أو ثلاثاً كل شهرين. إلا أن الطّلب تزايد جداً منذ عام 1972.
عام 1975، قصد عاصم إنكلترا ليأتي بشحنة جديدة من الآلات، وعبّر هناك، لـ«مستر ريد»، المورّد، عن رغبته بالتخصص في تصليح البيانو. فاستضافه هذا الأخير لمدة سنتين لقّنه خلالها أصول المهنة.
لكن عاصم لم يتكيّف مع الحياة الإنكليزية، وآثر العودة إلى أتون الحرب اللبنانية التي اشتعلت في تلك الأثناء، على «أكل الإنكليز اللي مش طيب». فالعرب كانوا لا يزالون قلة هناك، ما أشعر الشاب بالوحدة. ولم تنتصر جاذبية الحرية الغربية على «صينية الكنافة ومنقوشة الزعتر وصحن الفول والمشوّشة» اللبنانية، إذ يعترف عاصم بأن «الطعام موضوع أساسي بالنسبة لي».
لم يبرّر عاصم موقفه بنبل الوفاء لـ«وطن النجوم» وما إلى هنالك من تبريرات يتجمّل بها المواطن عادة، ولم يسقط عليه دوافع رومانسية متزلفة، بل كان واضحاً وصريحاً: إنه صحن الفول!
لم يتوقف عمل عاصم خلال الحرب الأهلية اللبنانية. ورغم كل البذاءات التي اكتسحت الشوارع، كانت تجارته تمر من «الغربية» إلى «الشرقية» وبالعكس، مع بعض التفتيش على المعابر وبعض «البقشيش» من حين لآخر.
لم يكن يملك هاتفاً في المحل الجديد الذي استأجره في «رأس النبع»، فكان يكتب في الإعلان الذي ينشره في الجريدة عن تجارته رقم هاتف صهره، ما أثّّر على علاقتهما. فقد كانت الاتّصالات توقظ الرجل في منتصف الليل فتفقده عقله ليصرخ بالمتصل: «ولك الحرب قايمة قاعدة برا وإنت بدّك بيانو بنص الليل؟!». ظلّ اللبنانيون يعزفون البيانو تحت وقع القنابل. لكن الحرب مثّلت المفصل في نوعيّتهم: «قبل الحرب، كان امتلاك البيانو حكراً على العائلات الكبيرة، أي الأرستقراطية فقط ، أما بعد عام 1990، فجميع الشرائح الاجتماعية أصبحت تشتري البيانو، حتى لو لم يكن للاستخدام المباشر، فقد أصبح وكأنه جزء من الديكور». رصد عاصم هذا التحول الاقتصادي ذا الدلالة الاجتماعية من خلال زياراته إلى البيوت لتصليح الآلات: «كنا قبل حلول السبعينيات، نصل إلى العنوان، ونسأل الناطور إذا تهنا عن المنزل: أي بيت فيه بيانو في البناية؟ أما بعد الحرب، فلم يعد ذلك ممكناً، لأن معظم البيوت أصبحت تحتوي على بيانو».
كل البيوت، يؤكد العجوز. حتى تلك القابعة في «بيت الدرج». فحارس أحد المباني قصده مرة لشراء بيانو لابنته، كما يخبرنا. لم تنخفض أسعار البيانو، لكن هذا الإقبال يعود «إلى البحبوحة التي حلّت على الناس، وخصوصاً في أعوام 2001 و2002» كما يفسّره عاصم.
كان الطلب قد ازداد كثيراً منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، إلا أن الطفرة الهائلة حدثت في عام 2000، حين أصبح عاصم يبيع حوالى «15 آلة بيانو في الشهر». لكن العد العكسي بدأ منذ عام 2003: «من بيع 5 آلات بيانو في الشهر، تراجع المبيع إلى 3 ثم إلى آلتين فقط حالياً، لكنها مهنة تؤمن ربحية معقولة ولا تزال كذلك حتى اليوم».
يستلزم عمل عاصم سفرات كثيرة، أحبها إلى قلبه تلك التي يقصد خلالها اليابان، ففي هذا البلد: «شعب شغّيل وعنده ضمير ونظيف. على أبواب مكاتبهم خفّ يستبدل الزائر به حذاءه، وخفّ آخر يبدّله إذا رغب بدخول الحمام».
يحب عاصم في اليابانيين انضباطهم، لكنه يعيش في حي يلامس حدود مواصفات «الحي الشعبي» اليوم، ويتعايش معه ومع مقوماته بخفر. عيناه الشاخصتان باستمرار نحو الأرض خلال المقابلة لم تعجزا في الأغلب عن ملاحظة ذلك الشاب الذي وقف أمام باب المحل المفتوح يثرثر بصوت عال ويقوم بحركات عصبية تميل إيحاءاتها نحو البذاءة للفتاة التي تجلس قبالته، لكنهما تجاهلاه تماماً حتى ضجر وغادر.
أما تلك الفتاة التي دخلت تسأل عن أقرب هاتف عمومي في المنطقة، فلم يتردّد عاصم لحظة في إعطائها هاتفه الشخصي لتجري اتصالها. كذلك كان حال المرأة المحملة بالأكياس الثقيلة التي استسمحته إيداع أكياسها في مخزنه ريثما تدخل قليلاً إلى الجامع.
يحب عاصم حيّه. ويحب مخزنه وآلاته التي حافظ عليها طوال حياته التي عاشها، كما يسمي منطقته «على خط التماس». أما مهنته، التي تتطلّب «أذناً موسيقية لأغراض الدوزنة، وروحاً طويلة جداً للتصليح، بما أنها عملية في غاية الدقة»، فلن يتركها. يعمل من الثامنة صباحاً حتى السادسة مساءً. وأحياناً، يصطحب معه إلى المنزل تلك «التصليحات» التي تحتاج إلى دقة لامتناهية لا يوفّرها سوى «هدوء المساء في المنزل». لا يضجر من عمله لأنه يحبّه. ويحبه لدرجة أنه لن «يتقاعد منه حتى آخر الحياة» كما يعاهد نفسه.


من شابه أباه...

لعاصم ولدان: أحدهما يعمل في السعودية، والآخر، وسام، الذي ورث عنه المهنة وجسّد المثال الحي لمقولة «التاريخ يعيد نفسه». فذاكرة وسام الضعيفة مثل ذاكرة والده جعلته «يستقيل من المدرسة»، تماماً مثله، في الصف الخامس الابتدائي بعدما هالته «سماكة» كتب الصف الأول المتوسط. أسعد هذا القرار الوالد لأنها مهنة «لم يعد أحد يمارسها غيرنا».