strong>دينا حشمت *تكاثرت شكاوى رجال الأعمال المصريين في الشهور الأخيرة من عدم توافر الغاز لإقامة استثمارات جديدة، في قطاعات الموانئ والإسمنت والمواد الكيماوية وغيرها. وكان أبلغ تعبير عن تذمّرهم تصريح للمهندس نجيب ساويرس، رئيس مجلس إدارة أوراسكوم، تناقلته وسائل الإعلام المصرية في صفحاتها الأولى دعا فيه إلى «إصدار قرار فوري بوقف تصدير الغاز المحلي».
وتُذكّرنا هذه الشكاوى بتحذيرات العديد من الخبراء حين اكتشاف إبرام اتفاقية عام 2005، تصدّر مصر بموجبها 1,7 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً إلى إسرائيل، بـسعر رخيص جداً لا يمكن مراجعته إلا في ظروف محدودة جداً.
وحسب بعض المصادر الصحافية، فإن الاتفاقية ستبقى سارية المفعول بين 18 و20 عاماً، فيما تحدثت مصادر أخرى عن سريان مفعولها لمدة 15 عاماً. وقد حذّر هؤلاء الخبراء من أن الاتفاقية تهدّد الاحتياطي المصري من الغاز، وذكّروا بمحدودية مخزون مصر الاستراتيجي من الغاز، 58 تريليون قدم مكعب، أي 1،657 تريليون متر مكعب حسب أرقام عام 2004 (مجلة الطاقة العالمية: ttp://www.planete-energies.com/site/en/homepage.html).
لماذا تقرّر الحكومة تصدير الغاز، إذا كان العمر المقدّر لمخزونها لا يتجاوز تسعة وثلاثين عاماً؟ قد يرد الوزير بأن هناك عمليات تنقيب جارية، وأن هذا المخزون سيزيد لا محالة، ولكن لا أحد يمكنه التنبؤ بدقة بما تُسفر عنه عمليات التنقيب ولا باحتياجات مصر المستقبلية من مادة الغاز.
وليست المناقشة في المخزون الاستراتيجي وأولويات استهلاكه إلا أحد أوجه السجال الدائر بشأن هذه القضية. هناك أسباب أخرى تفسّر موجة السخط التي أثارها إبرام الاتفاقية، واعتراض عدد كبير من نواب مجلس الشعب عليها، وقيام «حملة شعبية لوقف تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل».
وبالرغم من أنّ الحكومة رفضت أن تفصح عن سعر البيع، حتى بعد اعترافها بوجود هذه الاتفاقية، سرعان ما اكتُشف أن السعر المتّفق عليه أرخص من الأسعار العالمية (75 سنتاً إلى دولار للمليون وحدة حرارية بريطانية)، وثابت لمدة زمنية طويلة جداً (18 أو 20 عاماً). هذا ما جعل مجلس الشعب يثور ويطالب بحقه في إبداء رأيه في الاتفاقية.
عندئذ، ردّ وزير البترول، سامح فهمي، بأن هذه الاتفاقية ليست بين دولتين، بل بين شركتين، وبالتالي، أضاف، لا يمكن مطالبة الحكومة بتقديم تفسيرات عن أسعار البيع ولا حتى عن الجهة المصدّر إليها: «إنه لا يمكن قانوناً منع الشركات الأجنبية من اختيار الجهة التي تصدّر إليها، حسب قواعد الدولية، وحسب الاتفاقيات التي أبرمت معها». إحدى هذه الشركتين هي كونسورسيوم مصري ــ إسرائيلي، «ايست مديترينيان غاز» (غاز شرق المتوسط)، يديره رجلا الأعمال حسين سالم ويوسي ميمان. الأول كان عضواً بارزاً في الاستخبارات المصرية، مقرّب من حسني مبارك، وكثيراً ما يقدّم على أنه «مهندس اتفاقية كامب ديفيد». والثاني شغل عدة مناصب في جهاز الاستخبارات أيضاً، ولكن في الجانب الإسرائيلي، حيث كان في وقت من الأوقات رئيس الموساد.
ويعتمد ردّ سامح فهمي على حجج شكلية واقعية، ولكنّه يطرح أسئلة بعيدة المدى عن خيارات النظام الاستراتيجية في ما يخص طريقة استغلال ثروة البلاد النفطية والغازية، وفيما يخص التعامل مع الدولة الصهيونية. إذا نظرنا إلى الاتفاقية على ضوء هذه المعلومات، ندرك أنها تمثّّل تنفيذاً عملياً لاتفاقية «كامب ديفيد»، التي نصت على أن مصر ستصدّر مليوني طن من النفط إلى إسرائيل وفتحت الطريق أمام جولة مفاوضات بشأن تصدير الغاز المصري، بدأت في 1989 ولم تنجح إلا في 2005، بهذه الاتفاقية.
وتحقق اتفاقية تموين إسرائيل بالغاز المصري، نقلة نوعية في التقارب الاستراتيجي بين مصر والدولة الصهيونية وتجعل من الغاز المصري أحد حلول أزمة الطاقة في الدولة العبرية، وتكرّس تداخل الاقتصاد المصري والإسرائيلي بشكل يزيد من اعتمادهما بعضهما على بعض. ولا داعي إلى التذكير بأن مثل هذه الاتفاقيات تحدّ من خيارات الدولة المصرية وإمكانات اتخاذها قرارات سياسية بديلة، وتجعلها «متورطة» استراتيجياً مع إسرائيل.
ويبدو ترتيب الأولويات في ما يخص تصدير الغاز المصري سُريالياً إلى حد كبير. إذ أعلنت الحكومة المصرية، في اجتماع لدول مشروع خط الغاز العربي، استضافته القاهرة يوم الأحد 7 سبتمبر / أيلول الماضي، أن «أسباباً تقنية» تمنع تنفيذ عدة بنود في اتفاقية تصدير الغاز إلى لبنان، من ضمنها أن «مصر لن تكون قادرة على تصدير إلا نصف الكمية التي التزمت بها سابقاً». علماً بأن السعر التي تسعى إليه مصر في الاتفاقية مع لبنان هو من 5 إلى 7 دولار للمتر المكعب الواحد.
كما لم تتخذ الحكومة المصرية إجراءات تذكر لتأمين احتياجات المستثمرين على أراضٍ مصرية. فهي مشغولة بمراعاة ظروف الاقتصاد الإسرائيلي. هكذا تُسهم مصر في تنفيذ وتعزيز أحد أركان «السلام» حسب المفهوم الإسرائيلي ــ الأميركي له، أي تأمين احتياجات الدولة الصهيونية في مجال الطاقة، من دون أن تحتاج إلى شن حروب جديدة من أجل ذلك.
* صحافية مصرية