حسين بن حمزة
في الطريق إلى مكتب جورج قرم في مبنى «ستاركو» وسط بيروت، لا بدّ من أن يخطر في بالك أنّك ذاهب للقاء واحد من عائلة قرم الشهيرة. حالما تدخل المكتب يواجهك «أوتو ـــ بورتريه» لوالده على الحائط. ثمة صعوبة في إبعاد الرجل عن خلفيته العائلية. جدُّه داود رائد فنّ الرسم في لبنان. درس واشتهر في روما. دُعي لإنجاز بورتريهات لشخصيات شهيرة، بينها واحد للبابا، وآخر لملك بلجيكا. وثالث للخديوي عباس حلمي الثاني. والده جورج داود قرم كان رساماً أيضاً، إلى جانب كونه عازفاً ماهراً على البيانو. وهو من مؤسسي المتحف الوطني، والكونسرفاتوار اللبناني. ولا ينبغي أن ننسى عمّه شارل قرم صاحب «المجلة الفينيقية» وديوان «الجبل الملهِم».
ابن العائلة الأرستقراطية. كيف تحوّل إلى مثقف علماني ونقدي؟ لن يتأخّر الجواب: «لم نكن أرستقراطيين بالمعنى السائد للكلمة». يأخذ نفساً عميقاً ويشرح: «عشنا أرستقراطيةً ثقافيةً وفنية. صيت العائلة يوحي بأنّنا عشنا أرستقراطية مالية أيضاً، وهذا غير صحيح. كانت أوضاعنا مقبولة، لكننا لم نكن أغنياء. عمي شارل هو الوحيد الذي اغتنى في شبابه حين حصل على وكالة الـ «فورد» الأميركية. جدي كان متديناً ومتقشفاً. الفن أمَّن له حياة كريمة، لكن الحرب العالمية الأولى قضت على كل شيء».
شيئاً فشيئاً نكتشف أنّ سيرة جورج قرم كمفكر وباحث بدأت من مكان آخر. ولد صاحب «النزاعات والهويات في الشرق الأوسط» في الاسكندرية، وتعلّم في مدارس الآباء اليسوعيين. كان في الثانية عشرة حين اندلعت ثورة يوليو. يتذكّر خطاب عبد الناصر في تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي. يقول: «كانت صدمة كبيرة لي أن أرى طائرات فرنسا، بلد الحرية والأنوار بحسب ما تعلّمته في المدرسة، تقصف أحياء القاهرة. تخلخلت صورة فرنسا في ذهني. كل ما تعلمته عنها انهار في لحظة واحدة». التجربة الناصرية دفعت الطالب ذا الثقافة الفرنسية المعمّقة إلى الانكباب على التراث العربي. أُعجب بأحمد أمين وطه حسين وعلي عبد الرازق وأحمد فارس الشدياق... التلميذ المهيّأ لمصير فرنكفوني صار ابناً للنهضة العربية في مصادرها الأكثر تنويراً.
يعترف جورج قرم بأن معايشته للتجربة الناصرية هي ملهمة كتابه الشهير «انفجار المشرق العربي». امتزاج التنوير النهضوي العربي مع التحصيل الفرنسي، فتح أمامه آفاقاً فكرية واسعة ومتنوعة. يقول: «هناك شخصان كان لهما دور مباشر في انفتاحي على العروبة: الأب يواكيم مبارك الذي صار صديقاً لاحقاً. الثاني هو عبد المالك تمام، رئيس البنك الوطني الجزائري في الستينيات، حين كنت مديراً لمكتبهم في بيروت. وهناك أمر ثالث، فأنا كنت محظوظاً لأني درست في باريس أواخر الخمسينيات. كانت الجامعة موحّدة يتعايش فيها اليمين واليسار. أنا اكتشفتُ أهمية الماركسية من خلال محاضرات أستاذ معروف بيمينيّته».
هل انتسب إلى حزب معين في تلك الفترة؟ يجيب: «أعتبر نفسي عروبياً بالمعنى الحضاري للكلمة. لم أنتسب لأي حزب، كنت دائماً أرى أن الأحزاب العقائدية تعمل وفق شعارات تبسيطية للواقع». رغم ميوله وقراءاته الفكرية، أراد وزير المالية الأسبق أن يدرس الموسيقى. لكنّ والده ــــ عازف البيانو الشهير الذي يمنح الكونسرفاتوار اللبناني جائزة باسمه إلى اليوم لأفضل عازف بيانو ــــ منعه من تحقيق حلمه. في البداية، وافق على مضض أن يدرس ابنه الموسيقى سنة واحدة بشرط أن يقيم عند عمته في مارسيليا. لكن جورج، بعد نجاحه في امتحان القبول، انتقل إلى كونسرفاتوار باريس، فغضب الأب وقطع عنه الإمدادات. عاند الابن لفترة. اشتغل في مهن كثيرة ليؤمّن المال. حتى إنه عمل عتّالاً في سوق الخضار. لكنه استسلم في نهاية الأمر: «لم يكن راضياً منذ البداية عن دراستي للموسيقى. وحين عرف أني غادرت مارسيليا. صرتُ في نظره ابناً عاقّاً يوشك أن يفلت في صخب باريس».
لم تكن تلك الحادثة الوحيدة. كان قد سبق للأب أن تدخّل مرتين لإبعاد «شرّ» الموسيقى عن ابنه جورج. في الخامسة أحضروا له أستاذ بيانو. وعندما أُعجِب به الأستاذ وتنبأ له بمستقبل بارع، أوقف أبوه الدروس فوراً. لكن محاولات الابن لم تتوقف. «في الثالثة عشرة، أخذتُ دروساً في البيانو سراً عند أستاذة إيطالية. حين اكتُشف أمري، قالت لأبي: ابنك يمتلك موهبة عظيمة. فطلب منها أن تنصحني بالتخلي عن البيانو، وإقناعني بدراسة الهندسة. في النهاية، كلانا لم يُحقق مراده. توقفت أنا عن دراسة الموسيقى. أما أبي الذي أرسلني إلى سويسرا لأدرس الهندسة، فصُدِم حين علم أني غيّرتُ وجهتي سراً وذهبت إلى باريس لأدرس القانون والعلوم السياسية والاقتصاديّة». يضحك: «لحسن الحظ، كان غضبه أقل هذه المرة، فلم يقطع الإمدادات».
في عام 1966، أنهى قرم دراسته بتفوّق. لجنة التحكيم أوصت بنشر أطروحته «تعدد الأديان وأنظمة الحكم» في ثلاث لغات. بعدها عمل خبيراً ومستشاراً اقتصادياًً لمؤسسات لبنانية وعربية ودولية. لكن المحطّة الأساسيّة في مساره أنه عُيَّن خبيراً في وزارة التصميم العام ووزارة المالية في عهد الرئيسين فؤاد شهاب وشارل حلو. المثقف الشاب الذي بهره عبد الناصر، وجد بيئة ملائمة لتطبيق أفكاره في الحقبة الشهابية التي شهد فيها لبنان محاولات جديّة للإصلاح الإداري والاقتصادي، فضلاً عن أنّ شهاب نفسه كان منفتحاً على الناصرية. بعد ذلك بعقدين تقريباً، لن يكون غريباً أن يُعيَّن وزيراً للمالية في حكومة سليم الحص الذي حلّ مكان رفيق الحريري (1998 ــــ 2000). يتذكّر يومه الأول في تلك الفترة العاصفة: «كان طابق الوزير فارغاً تماماً. وعلى سطح المبنى كان الهواء يطيِّر رماد الأوراق والوثائق التي مُزِّقت وأُحرقت قبل تسلُّمي الوزارة».
عمله كخبير ووزير وأستاذ جامعي في «اليسوعية» و«الكسليك»، لم يشغله عن انخراطه كمفكّر وكاتب في القضايا السياسية والثقافية الراهنة. نستعيد معارضته لإعمار وسط بيروت بالطريقة التي اتبعتها شركة «سوليدير». كان ضمن كوكبة من الأسماء النزيهة التي ذيّلت دراسة شهيرة بعنوان «إعمار بيروت والفرصة الضائعة» (1992). يؤلمه أنّ الوصول إلى مكتبه يجبره على مشاهدة التشويه الذي حدث لوسط المدينة. يتنهّد ويبتسم: «عزائي الشخصي أن مكتبي يقع في بناية باتت من تراث الوسط التجاري، كما أنه يطلُّ على مدرسة الراهبات الباقية على حالها».
ما تناوله قرم في أطروحته عن الأديان عاد ليتصدّر الواجهة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. لم يتأخّر صاحب النبرة السجالية عن الانضمام إلى معارضي مقولة هنتنغتون حول صراع الحضارات. أصدر كتاب «شرق وغرب: الشرخ الأسطوري». ثم تناول الموضوع من زاوية أخرى في كتابه الأخير «المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين».
في غضون ذلك، لم ينسَ إرث والده. أقام ثلاثة معارض استعادية لأعماله. الحديث عن والده يفتح موضوع الموسيقى مجدداً. لكن هذه المرة مع ابنه. «كنتُ أكثر تسامحاً من أبي. ابني منير درس العلوم السياسية مثلي، لكنني لم أمنعه عن الموسيقى».


5 تواريخ

1940
الولادة في الإسكندرية (مصر)
1969
دكتوراه دولة في القانون الدستوري من باريس
1963
خبير في وزارتي «التصميم العام» و«المالية» في عهد الرئيسين فؤاد شهاب وشارل حلو لمدّة خمس سنوات
1998
وزير الماليّة في حكومة الرئيس سليم الحص حتى عام ألفين
2007
صدور الطبعة العربية من كتابه «المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين» (دار الفارابي)