رامي خريسمنظر الأطفال الفلسطينيين الذين ينتظرون تحت أشعة الشمس الحارقة لتعبئة القليل من غاز الطهي المنزلي، منتظرين أيّاماً عدّة أمام محطات التعبئة، يثير في النفس الألم، ويدفع نحو التفكير في مآلات قطاع غزّة الذي يعيش فيه مليون ونصف مليون فلسطيني في أسوأ ظروف معيشية عرفها تاريخه. دأبت إسرائيل منذ احتلالها الضفّة وغزّة في عام 67 على انتهاج سياسة اقتصادية تهدف إلى فصم عرى عملية توليد الدخل الفلسطيني عن الإنتاج الفلسطيني، فأضحى اقتصاد المناطق المحتلّة بلا قاعدة إنتاجية مستقلة، بل خادمة للطلب في السوق الإسرائيلي. واليوم بعد أربعين عاماً من الاحتلال الثاني، تدخل المناطق المحتلّة والقطاع تحديداً حقبة جديدة، هي بالأساس جزء من خطة الانفصال الإسرائيلية، التي يراد من خلالها إنهاء القطاع ككينونة سياسية واجتماعية، والإجهاز على ما بقي من الضفّة
المحتلة عن طريق فرض ظروف معيشية قاسية تدفع الفلسطينيين إلى اليأس، وبالتالي القبول بالخيارات السياسية الأكثر سوءاً.
نظرة على حال قطاع غزّة تقول: 1ـــ إن معدل الفقر في أوساط الأسر الفلسطينية يفوق 60%. 2ـــ اعتماد كلّي على المساعدات الدولية ورواتب موظفي السلطة التي تأتي من المانحين أيضاً. 3ـــ انهيار للقطاع الخاص الفلسطيني محرّك عجلة النمو في القطاع. وهذا الأخير، أي القطاع الخاص، فقد كل طاقته الإنتاجية وأصبح متوقفاً تماماً عن العمل، وسرّح بسبب ظروف الحصار المشدّد ما يزيد عن مئة ألف عامل يعيشون الآن ظروفاً معيشية قاسية للغاية.
هذا الواقع الذي تفرضه إسرائيل على غزّة يدخل في إطار سياسة «مأسسة التخلف»، وإعادة تكييف القطاع وسكّانه لاستيعاب ظروف اقتصادية جديدة أسوأ، ستطول وتتفاعل دينامياتها إلى الحد الذي تصبح معه العودة إلى الأوضاع القديمة أمراً صعباً. فالخسائر التي تكبّدها القطاع الخاص كبيرة، بحيث تحد من قدرة الكثير من المنشآت على استعادة عافيتها الإنتاجية في حال تخفيف القيود القائمة حالياً.
أما رؤوس الأموال التي استطاعت أن تتسرب إلى خارج القطاع فلن تعود إليه بسهولة، لأن البيئة الاستثمارية ستبقى حتى في المستقبل القريب، في ظل أجواء التهدئة، طاردة لرأس المال، ناهيك عن الأسواق الخارجية التي خسرها أرباب الصناعة والزراعة الفلسطينيون بفعل توقّف حركة التجارة منذ ما يزيد عن العام، والتي سيكون من الصعب استعادتها مستقبلاً.
ما هو أخطر بطبيعة الحال من الظروف الاقتصادية التي ستترتب على الحصار
الإسرائيلي المحكم على غزّة، يتمثل في الخيارات السياسية التي ستنجم عنها.
فحالة الفقر المدقع واليأس الشامل، في ظل انقسام الفلسطينيين وافتقاد حركتهم السياسية على اختلاف توجّهاتها للبرنامج الوطني الواقعي والمتفق عليه، سيسّهل تمرير المشروع الإسرائيلي الهادف إلى رمي غزة خارج سياق معادلة الصراع، وتحويلها إلى منطقة منكوبة تتعطّف عليها الأمم.
علينا أن نتذكر أنه عندما ضاقت الأرض بالفلسطينيين، كان خيارهم الجماعي هو التوجه نحو سيناء، وأخشى أن يكون خيارهم السياسي المُكرهين عليه مستقبلاً على الطريق ذاته!