ناهض حتر*عند نشر هذا المقال أو بعد ذلك بقليل، سوف يشهد الأردن تغييرات في المناصب العليا وتعديلاً وزارياً يهدفان إلى إعادة ترتيب البيت ووقف الانشقاق الحاصل في النظام والدولة: الجناح الذي سيُطاح هو الجناح الليبرالي الجديد، والجناح الذي ربح الجولة، لا الحرب، هو الجناح الوطني بتركيبته المعقّدة التي تجمع عناصر من البيروقراطية المدنية والعسكرية والأمنية والعشائر والفئات الشعبية والمثقفين اليساريين. التغيير الداخلي يأتي في مناخ إقليمي ودولي مؤاتٍ. فالآمال المعلّقة على مسيرة السلام ماتت، وقوى الممانعة والمقاومة أحرزت انتصارات واضحة، وأزمة القوقاز أظهرت أن العالم يتّجه صوب تعدّد الأقطاب، والأزمة المالية الأميركية تعصف بالنموذج الليبرالي الجديد عالمياً.
لم تكن المعركة، كما صوّرها المعارضون الفائتون الذين استقالوا من الصراع فعلياً، معركة بين «مراكز قوى»، على رغم شكلها الذي يوحي بذلك. بل كانت، ولا تزال، ذات طابع اجتماعي وطني، يدور حول النقاط الآتية:
ـــ أولاً، مشاريع الوطن البديل بأشكالها المختلفة المطروحة، من العودة إلى الخيار الأردني في الضفّة، إلى التوطين السياسي النهائي للاجئين والنازحين الفلسطينيّين مقابل مساعدات، إلى طروحات الفدرالية والكونفدرالية مع دولة فلسطينية مؤقّتة.
ـــ ثانياً، مشاريع المرحلة الأخيرة من تصفية الممتلكات العامّة والقطاع العام، وخصوصاً في حقل الخدمات، وما رافقها من فساد ضخم ناجم عن الخلط الذي استحدثته الليبرالية الجديدة بين رجال السياسة والإدارة، ورجال الأعمال، بحيث توجّه قسم من الأوّلين إلى «البزنس» وتسلّم قسم من الأخيرين مناصب عليا ووزارية حسّاسة، ما جعل المسافة تتلاشى بين القرار والاستثمار، وبين فضاء المصلحة العامّة ودهاليز مصالح البزنس المحلي، وبين الطرفين والرأسماليين الأجانب.
ـــ ثالثاً، الفجوة الطبقية المتصاعدة بين أقلية (30 في المئة) تحصد 60 في المئة من الدخل الوطني، وبين أكثرية (60 في المئة) تنال 30 في المئة من ذلك الدخل، مع وجود ظاهرة مستجدة هي ظاهرة الجوع التي تطحن ما يقرب من مليون مواطن.
ومن المبكر القول ما إذا كانت النتيجة سوف تؤول إلى تغيير شامل في النهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي سيطر على البلد في العقد الأخير، لكن هناك إشارات في هذا الاتجاه، أهمها:
1ـــ بروز اتجاه داخل النظام متصلّب إزاء كل مشاريع «الوطن البديل» أو حتى الصمت على اتفاق فلسطيني ـــ إسرائيلي لا يأخذ بالاعتبار المصالح الوطنية الأردنية.
وقد عبّر هذا الاتجاه عن نفسه بقوة من خلال وقف القطيعة مع «حماس» والشروع في محادثات معها، والتوجه إلى تعزيز العلاقات مع سوريا (وروسيا)، بل البحث في التواصل مع حزب الله، في أفق إقامة شبكة أمان سياسية في مواجهة مشاريع «الوطن البديل».
2ـــ بروز ميل قوي إلى توجيه ضربات متتالية إلى مواقع الفساد في أجهزة الدولة. ولم تكن مصادفة أن الفاسدين هم من أوساط الليبراليين الجدد تحديداً.
3ـــ بروز ميل للتعاطي الإيجابي مع القضايا المطلبية للفئات الشعبية والعمالية.
ممّا يلفت الانتباه أن التيار اليساري الجديد في الأردن، ممثلاً بمنظمة شابة ذات شعبية كبيرة هي «حركة اليسار الاجتماعي» وحلفاؤها، قد فرض نفسه على المعركة بوصفه أبرز عناوينها. وهو استطاع أن يفرض الربط بين البرنامج الاجتماعي والبرنامج الوطني على الوعي العام. وهذه الهيمنة الفكرية سيكون لها في المستقبل القريب ترجمة سياسية، تمنح اليسار الأردني، لأوّل مرة في حياته، موقعاً رئيسياً في الحياة السياسية الوطنية. ويرجع الكاتب الأردني جميل النمري، صعود اليسار الاجتماعي إلى خطابه الجديد المكوّن من «تشدد وطني وطبقي وليبرالية ثقافية». وهو خطاب يلائم المثقفين الأردنيين، وخصوصاً من أبناء العشائر والمحافظات.
ويطالب اليسار الاجتماعي بحقه كتيار وطني أساسي في المشاركة في القرار والإدارة، من خلال برامج إعادة هيكلة أربع وزارات هي الصحة والعمل والتنمية الاجتماعية والثقافة. وهو يرى أنّ تطوير عمل هذه الوزارات وبرامجها أصبح أساسياً لمعالجة، ولو جزئية، للأزمة الاجتماعية والثقافية في البلاد، ويقترح أن يتولّاها يساريون أو شخصيات قريبة من اليسار.
إعادة ترتيب البيت الأردني ترتبط، بالطبع، بخطوات نحو الإصلاح السياسي. ويعطي الكاتب فهد الخيطان أولوية لانتخابات نيابية مبكرة للتخلص من المجلس النيابي الحالي الذي «انتخب» بالضغوط الإدارية والمالية، وانتخاب برلمان جديد يمثل الاتجاهات السياسية، ويعيد للندوة البرلمانية اعتبارها ودورها في القرار والرقابة.
وتمثّل هذه الخطوة، التي ما تزال مستبعدة، مفصلاً أساسياً في اتجاه تغيير جدي في تكوين النظام السياسي. لكن تجاوزها قد يحصل من خلال التفاهم على الاعتراف بثلاثة تيارات، هي التيار الوطني والتيار الإسلامي والتيار اليساري، يجري إشراكها في تنظيم الحياة السياسية.
إجراء انتخابات حرة في ظل موازين القوى الجديدة في البلاد، سوف يؤدي إلى تحسين نوعية البرلمان. لكن الخطوة التي لا تحتمل التأجيل ويمكن القيام بها توّاً هي اتباع حزمة من السياسات الاجتماعية الوطنية الإنقاذية، بعدما دمّرت الليبرالية الجديدة حياة الملايين.
ولم يعد هناك بدّ من إعادة سيطرة الدولة على السوق الداخلي، وخصوصاً في مجال الغذاء والدواء والعلاج والتعليم والمواصلات والإسكان، وإعادة برامج الدعم الاجتماعي بدلاً من الأعمال الخيرية التي تنسف ثقافة المواطنة والإحساس بالكرامة الإنسانية. وهما شرطان أساسيان لإدماج البشر في الحياة السياسية والدفاع عن الوطن.
وفي المجال الاقتصادي، هناك ضرورة ملحّة لتحجيم الاستثمارات الأجنبية والمحلية في القطاعين العقاري والمالي، ودفع المستثمرين إلى القطاعات الصناعية والزراعية والمائية التي تستجيب للضرورات الوطنية.
المهمات المطروحة أردنياً تزكي دوراً متصاعداً لليسار وبرامجه. وبينما يظهر النظام السياسي الأردني قدراً أكبر من المرونة والاستعداد لتوسيع قاعدته الاجتماعية، فإن الكرة الآن في ملعب اليساريّين الأردنيّين للتخلّص من الجمود والعقد والتهميش، وإظهار المزيد من الشجاعة في الفكر والممارسة.
* كاتب وصحافي أردني