طوني عبد النورالجهاد منتهى التضحية، كلية العطاء، فعل محبة، والجهاد قد يؤدي إلى استشهاد أو إلى أسر... فلو لم يأسر شعاع الروح الكلي مطلق وعيه في وحدة نظامنا الشمسي لما تشكّلت أبعاده واستوى بعده المادي الذي نحيا ضمنه (كوكب الأرض)، وأدى إلى وجود الخلائق جمعاء. شعاع روحنا مصدر كينونتنا، انبعث من هذه الوحدة الكلية مكوناً جزءاً منها، عليه أن يعي حقيقة وحدته كي يتخلص من أسره ضمن مطلق نظامنا الشمسي. فمراراً وتكراراً يؤسر شعاع روحنا في أجساد ترابية كي يستطيع التفتح على حقيقة وجوده اللاواعية التي نشأ فيها أصلاً، محقّقاً هدف وجودنا الأرضي.
وكأن الخلق بأكمله مبني على الأسر، أسر الوعي كي يتفتح على مطلق وعيه الذي يمثّل له مدى حريته. وقد ورد في القرآن الكريم في سورة الأنفال سورة 8 ـــ آية 67: «ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم». وفي الكتاب المقدس ورد في سفر أيوب، أي ـــ 3 ـــ 18: هُناكَ يَطمَئِنُّ الأسرى ولا يسمعونَ صوتَ المُسَخرِ. هل لأن أسر الروح في الجسد يبدّد الجهل واللاوعي ويعمد على تنقية النفس من شوائبها وأدرانها وعيوبها ليعيدها إلى أصالتها نقية برّاقة تعكس حقيقتها القابعة في ذاتها العليا؟ أم لأن قانون التطور برمجت فيه عملية الأسر كي يرتقي الإنسان بوعيه؟
لو راقبنا حياتنا منذ بداية إطلالتها ضمن عائلة معينة، لوجدنا أننا نؤسر في أرحام أمهاتنا كما أمنا الكلية تحتضن أشعة أرواحنا كي تغدو نجوماً كونية... ثم نؤسر ضمن جدران منزلية لنؤسر بعد ذلك في مدارس وجامعات ومجتمعات بغاية التعلم والتفتح والاكتساب. البعض تأسرهم رغبات معينة فيما آخرون تأسرهم نزوات لا يتوانون عن تحقيقها مهما اعترضتهم موانع أخلاقية واجتماعية، وذلك بغاية الإفلات من أسر الجسد والتنعم بحرية واهية. بيد أنّ هنالك العديد من المقاومين المدافعين عن أوطانهم يقعون في الأسر، وقد تجلّت فيهم معاني التضحية والعزة والبسالة عندما جابهوا الأعداء بجبروت إرادتهم وعنفوان كرامتهم وقوة عزيمتهم في التصدي لشتى أنواع العذابات التي مورست بحقهم من جسدية ونفسية وإرهابية. فحطموا معنويات الأعداء بخروجهم سالمين شديدي الشكيمة، أقوياء، قادة، أبطالاً، كما خرج الأسرى المحررين من سجن اليهود الظالمين.
صحيح أنهم ذاقوا ذل الأسر، لكنهم غدوا أمراء في الجهاد والإباء، بتصديهم لأقوى الدول بطشاً وعنجهية، مقوّضين معنوياتها، آملين أن نحرر نفوسنا من أسر الجهل والتعصّب والطائفية والعمالة والحقد والضغينة، كي نستحق لنكون أبناء لوطن يجمع الرسالات السماوية في تعدد طوائفه. فنتآخى ونتعاون في ما بيننا كي نخفّف من وطأة أسر لاوعينا، محوّلين إياه إلى أسر يأسرنا جميعاً تحت راية المحبة كما يأسر الحب حبيبين عاشقين متيمين لا يفرّق بينهما ألم وحزن ومعاناة. وكأن الحياة بأكملها مجموعة حقب من الأسر، تعمد على تفتيح لاوعينا الذي لا يتطور إلاّ بواسطة المعاناة والمواجهة. هل لأن الألم والثبات في عقيدة التصدي للمصاعب هما اللذان أديا إلى تحويل الأسر إلى أسطورة بطولة؟ أم إنّ الهدف طغى على كليهما؟ إن كل دافع للعمل، ما لم يرتكز على هدف، آل إلى فشل، وهذا سر نجاح أسرى وطننا في سجون الاحتلال، هو طموحهم في دحر الأعداء وردعهم عن تدمير وطننا وإذلاله، مهما غلت التضحيات. لكن ما الفارق بين أنواع الأسر جمعاء؟
إن ما يفرّق أسراً عن آخر هو الهدف المراد تحقيقه، فجميعنا أسرى لاوعينا، وحده الوعي بمقدوره أن يحرّرنا منه. والإنسان وجد على الأرض ليتحرّر أولاً من عبودية المادة، ولينعتق من سلبياته التي تسبّبت بأسره ضمن عالم المادة، وكأنها أثقال وأحمال تمنعه من التحليق عالياً نحو قمم وعيه...
وحدهم القادة المعلمون يأسرون أرواحهم طوعاً ضمن أجساد ترابية، بعدما قلّلوا من توهّج هالاتهم النورانية... كي يساعدونا على تطوير وعينا، وهذا يُعدّ أرقى أنواع الأسر وأسماه تضحية. إنه أسر الروح من أجل تفتيح بواطن الآخرين، وأسر الجسد ضمن عالم محدود كي يتواصلوا مباشرة مع أشخاص  بحاجة إليهم لمساعدتهم في شؤون وشجون حياتية. فأسر الروح في الجسد طوعاً مطلق التضحية، هي حرية تنازلت عن عرشها وملكوت مجدها بقصد تطوير وعي الآخرين.
فما من أسر إلاّ وتليه مراحل تطور وارتقاء، فالحياة ما لم تؤسر لمدة زمنية ضمن أحشاء الأم لن تستطيع أن تتكامل لتكتمل وتتطور. هكذا قانون الوجود مبني على الأسر، أسر التعلّم والاختبار بغاية التطور في الوعي على النواحي كلها.
كتاب «رحلة في رحاب الحقيقة» (منشورات أصدقاء المعرفة البيضاء ـــ الإيزوتيريك، بيروت) ذكر ما يلي: «العطاء أن تعطي مما عندك بمحبة ورضا ذاتي... أما التضحية فأن تعطيه مرغماً، لكن بمحبة... فإن أنت نفذت رغبة مشاعرك باسم المحبة تكون قد أرغمت على التضحية». فيا من تأسر شعاع روحك من أجلنا، اجعله سفينة وعي تنطلق بنا إلى أقاصي الأكوان نحو مطلق الحرية إلى النور الكلي.