سعد الله مزرعاني*ـــ قبل ذلك بأيام، كانت الإدارة الأميركية تتسلل إلى لقاء للممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية، «خافيير سولانا»، مع ممثل الحكومة الإيرانية، للمشاركة مباشرة، ولأول مرة، وبعد رفض وتهديد ووعيد، في حوار مع إدارة أحمدي نجاد رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية!! اللقاء كرّس صمود إيران في مواجهة الضغوط، وجسد في المقابل خيبة واشنطن وفشل تهديداتها وإجراءاتها وعقوباتها. ولم يفاجئ أحداً الكلام الرسمي الإيراني الصادر بعد اللقاء الأميركي ـــ الإيراني المباشر، من «أن مسألة وقف التخصيب النووي ليست مطروحة للبحث بالنسبة للطرف الإيراني».
ـــ وفي الانتقال إلى الشأن العراقي، وهو شأن مركزي بالنسبة للسياسة الأميركية وللخيبات الأميركية على حد سواء، يمكن التأكيد أن واشنطن لن تستطيع أن تملي على العراق مشروع المعاهدة وفق النصوص الأولى التي قُدّمت. وهي لن تجد في العراق من يجرؤ على التوقيع على معاهدة تعطي للمحتل نصراً قد عزّ عليه خلال خمس سنوات ونصف سنة تقريباً، وحصد بديلاً منه الكثير من الخسائر والإخفاقات والعجز. بالمقابل، يخيم شبح المرشح أوباما على المشهد العراقي. فهذا الرجل قد بنى الجزء الأساسي من حملته الانتخابية على مشروعه للانسحاب السريع من العراق في أقصر مدى ممكن. وقد ثابر أوباما على هذه السياسة رغم التحولات التي طرأت على عناوين أخرى في حملته. أما السبب هنا فواضح تماماً: إن الانسحاب السريع من العراق ما زال شعاراً شديد المردود في السباق إلى «البيت الأبيض»!
ـــ وفي الساحة الثانية، من حيث الأهمية بالنسبة لواشنطن، بعد العراق، أي لبنان، لا يختلف الأمر بالنسبة لواشنطن عنه في العراق وفلسطين وإيران. لقد وصف «غاري أكرمان» رئيس اللجنة الأميركية الفرعية بشأن الشرق الأوسط وجنوب آسيا، اتفاق «الدوحة» بأنه «نكسة». وهو رأى أن أفعال «حزب الله» في شهر أيار الماضي «فرضت واقعاً سياسياً جديداً وغير عادل». وأضاف أكرمان، خلافاً لمكابرة السفير الأميركي السابق في لبنان «جيفري فيلتمان»، أن ما حصل في لبنان «أصبح واقعاً، بغض النظر إذا ما أحببنا هذا الأمر أو لا»! وكان «طبيعياً» بعد ذلك، أن يلقي المسؤول الأميركي باللائمة على حلفائه في لبنان: فهؤلاء بحاجة إلى «تعلم بعض الدروس المهمة بشأن بناء التحالفات وتسجيل الناخبين وتجييشهم»! ولم يفت «أكرمان» أن ينتقد ضمناً شريكه أمام لجنة الاستماع في مجلس النواب فيلتمان، حين قال «ليس علينا فقط الاكتفاء بدعم بناء المؤسسات الحكومية اللبنانية»!
هذه المحصلة غير الإيجابية ستلقي بأعبائها دون شك على الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الأميركية، كما كان الأمر (على الأرجح) في انتخابات مجلس النواب للعام الماضي. لا يعني ذلك أن واشنطن قد مُنيت بهزيمة ساحقة لن تقوم لها قائمة من بعدها. هذا ليس واقعياً وصحيحاً. فالولايات المتحدة الأميركية هي اليوم القوة الأعظم في العالم. وهي قوة الرأسمالية الأساسية في اندفاعة انتصارها بعد «الحرب الباردة» وانهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي. وستعرف إدارات أميركية مقبلة كيف تقلص الأضرار وتنتج سياسات ومقاربات جديدة، تصون من خلالها الأساسي من المصالح الأميركية في العالم عموماً، وفي الشرق الأوسط خصوصاً. ذلك يعني أن المعركة ستستمر بأشكال جديدة، كانت لجنة بيكر ـــ هاملتون قد قدمت نصائح بشأنها.
بكلام آخر، حتى لو ربح «أوباما» في الانتخابات، فلن يخرج الجيش الأميركي سريعاً من العراق، نظراً لكلفة الانسحاب السريع الذي سيعادل الهزيمة الكاملة، ونظراً لمقاومة فريق نافذ في «المجمع الصناعي الحربي» الأميركي الذي يتولى جني مئات المليارات من نفقات حرب العراق، ومن التلويح بالخطر الإيراني، ومن رفع أسعار النفط بهذا الشكل المخيف تأميناً للنفقات والإنفاق المطلوبين... تستطيع الولايات المتحدة الأميركية إذا تدبر أمورها وصعوباتها لتندفع في محاولات جديدة، بوسائل جديدة، وللهدف نفسه بالتأكيد: المزيد من الهيمنة على العالم ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. تلك هي طبيعة النظام الرأسمالي الأميركي في مرحلة «العولمة» الأميركية المعسكرة والمنفلتة من كل رادع أخلاقي أو قانوني أو دولي... فماذا عن منطقتنا؟ وماذا عن قضايانا؟ وماذا أيضاً عن بلدنا؟
لا تنتظم المقاومات التي واجهت السياسات الأميركية في منظومة متكاملة ذات رؤية ونهج واضحين، كما ينبغي للأمور أن تحصل في حالات الغزو والخطر والاجتياح والتهديد الواقع على مصائر دول وشعوب، وعلى سيادتها وأرضها وثرواتها ومصالحها. وبسبب ذلك، فإن زوال الجزء الداهم من الخطر الأميركي، سوف يكون بالنسبة للبعض مناسبة لاعتماد سياسات لا تمت بصلة إلى استثمار الهزيمة الأميركية (والإسرائيلية) في مشروع تحرري ـــ تنموي عربي مستقل وناشط وناهض. وبالمقابل، تخوض قوى «الاعتدال العربي» معركة ضارية لكي تحافظ على وجودها ونفوذها ودورها وأنظمتها. ويقدم المشهد العربي الرسمي أسوأ صورة بسبب انكفاء أنظمة وحكام وتيارات سياسية عن تقديم أي مساهمة إيجابية في الاعتراض على المشروع الأميركي وعلى العدوانية الصهيونية.
إنها مشكلة البديل. وهي مشكلة قائمة على المستوى الرسمي كما على المستوى الشعبي. إن البدائل المطروحة، بغض النظر عن المنطلقات، هي بدائل قاصرة. وبعضها عبثي وخطير! وباستثناء حالات قليلة ومحدودة، يكاد الصراع في الجانب الاقتصادي ـــ الاجتماعي منه (وهو جانب أساسي جداً) يكون غائباً. ويقود كل ذلك وسواه، إلى استنتاج مخيف: ثمة عجز عن استثمار التضحيات، وثمة فراغ قاتل لا بد من رؤيته، ولا بد من التحذير منه.
على الصعيد اللبناني، لا يحتاج فقط «حلفاء» واشنطن إلى نصائح كما ذكر المسؤول الأميركي «أكرمان»، بل يحتاج إلى مثل ذلك، وخصوصاً خصوم السياسة الأميركية في لبنان، وفي المنطقة، من فريق الثامن من آذار. والنصائح هنا لا تعني كما ذكر المسؤول نفسه (وطريقته مميزة بالفعل!)، التوهم «بالتأثير على الأحداث من خلال قراءة الصحف»، أي في حالتنا هنا الاكتفاء بـ«الأستذة» والتشاطر... إن الوضع اللبناني يحتاج بدوره إلى قيام مشروع وطني نشيط ومتكامل، تنهض به قوى متنوعة المنطلقات، موحدة الهدف المرحلي حول عناوين ثلاثة:
ـــ مواصلة مواجهة مشروع الهيمنة الأميركية على المنطقة، بوسائله وأدواته الراهنة أو المستحدثة لاحقاً.
ـــ مواصلة التصدي للعدوانية الإسرائيلية الموجهة ضد الشعب الفلسطيني خصوصاً، وضد لبنان والبلدان العربية ومصالحها عموماً.
ـــ اعتماد صيغ سياسية وعلاقات تقوم على المشاركة والديموقراطية.
ـــ بلورة مشروع تنموي حقيقي يمثّل دعامة وأرضية صلبة للاستقلال ولصيانة الثروات الوطنية واستعادتها وللعدالة الاجتماعية.
* كاتب وسياسي لبناني