عبد الأمير الركابي*قد لا تكون التخوّفات من استراتيجية تفتيت المنطقة هي الأفق الفعلي المتحكم بالاحتمالات، أو بالمتغيرات الممكنة على صعيد المستقبل. الملامح الفعلية تقول بأن طوراً من مفهوم ومشاريع دول «حديثة ــــ حداثية» قد بلغ نهايته أو انهار (حالة العراق مثالاً)، أو ولّد «دولة موازية» ونقيضة (حالة لبنان)، أو يعاني أزمة تفجر تاريخية لا سابق لها على مدى قرون (مصر). غير أن أفق تلك المتغيرات لا يعني حتماً طغيان وجهة الانهيار أكثر مما يكرِّس حضور ثلاث حساسيات وخيارات كقاسم مشترك عربي، وهي:
ـــ خيار القبول بالافتراض التفتيتي في العراق كمثال نظام المحاصصة الأميركي.
ـــ خيار التمسك بالدول القائمة أو المطالبة القسرية بالإبقاء عليها كما هي.
ـــ خيار التوافقية الوطنية وإعادة إنتاج العقد الاجتماعي.
في العراق نعرف كيف يُعبّر عن المواقف الثلاثة، أما في لبنان فيطالعنا الحديث عن ضرورة الاندراج في «الدولة». وهذا الموقف يتبناه أولئك الذين يريدون الحفاظ، لا على «الدولة» بل على نوع معين من «الدولة». إنهم ينتصرون لدولتـ«هم» التي تلغي ما عداها، وتنهي المقاومة كمشروع دولة موازية. فهذه عليها بكل بساطة أن تسلّم السلاح وتنضوي تحت سقف القوانين والدستور. ذلك بالطبع كلام يؤدي عند التمسك به إلى الاحتراب الأهلي. فالدولة ليست صنماً، ولم يسمع أحد بأن الدستور والقوانين قد هبطت من السماء على يد مرسل أو نبي. وفي عام 1943 قام توافق لبناني أفضى، بناءً على شروط معينة، إلى صيغة ونظام مؤسس على قانون أساسي فرضته وقائع وتوازنات وآليات نابعة من واقع محدد إقليمي ودولي، لم تمض خمس سنوات حتى أصيب بهزة كبرى غيّرته رأساً على عقب، لا في لبنان بل على المستوى الإقليمي وعلى مستوى المنطقة برمّتها. فهزيمة 1948، وقيام إسرائيل، وتهجير الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم، لم تكن مجرد أحداث عابرة طرأت على لبنان والمنطقة. وكلنا يعرف أنها هزت العالم العربي وغيّرت دوله، وأسقطت عروشاً، وأوجدت ظواهر لم تكن موجودة ولا معروفة على الإطلاق. والأهم ما قد طرأ على واقع الشعب الفلسطيني لاحقاً، مع ظهور حركة المقاومة، ومنظمة التحرير الفلسطينية، بعد ظاهرة «المخيم» واللجوء واللاجئين الفلسطينيين. في السياق المذكور، كانت «الدولة اللبنانية» التي أقيمت ركائزها عام 1943، قد بدأت هي الأخرى تهتزّ، ولم يأت عام 1958 حتى وقع الاضطراب في قلبها.
الآن، هنالك سذاجات خطرة يرددها أنصار العودة إلى ما يسمونه «الدولة» بالمطلق. من هذه القول بأن ظاهرة المقاومة هي نتاج لحظة من غياب الدولة. وهؤلاء لا يسألون أنفسهم عن معنى غياب الدولة لمدة ثلاثين سنة، تناوب على ملء الفراغ خلالها الوجود الفلسطيني (وقتها كانت الانعزالية المارونية تردد المقولة نفسها: الدولة اللبنانية مقابل الفوضى الفلسطينية، حينما كان المسلمون السنّة يرون المقاومة الفلسطينية جيشهم، أما اليوم فزعماؤهم لا يريدون المقاومة اللبنانية لأنها أصبحت جيش آخرين)، ثم المقاومة اللبنانية التي تملك اليوم 40 ألف صاروخ. الرد بالطبع بسيط، فتلك الدولة بصيغتها التي قامت عليها عام 1943 لا تناسب متطلبات الأوضاع الإقليمية والداخلية اللبنانية وتداخلها وتطوراتها، ودولة تعيش مأزقاً يستمر من عام 1958 حتى اليوم، أي نصف قرن من أصل 65 سنة هي مجمل عمرها منذ أقيمت، لا ينتظرها الواقع ولا المجتمع وضرورات وجوده ومستلزمات استمراره. والحصيلة التي نعيشها الآن وقائع تفصح عن مسارات مؤلمة لأزمة طويلة وعجز، مع هيكل وكتلة تمثل دولة موازية تتفوق على الدولة في القدرات والإمكانات العسكرية، والمناقبية، والفعالية، وبالمنجزات الكبرى والباهرة. هذا المشهد وما في خلفيته يعني أن لبنان يجب أن تسود فيه «الدولة» حتماً، لكن لا يمكن أبداً تصور هذه البلاد وقد عادت إلى ما قبل الدولة الموازية (المقاومة ومن معها ويؤيدونها). الحياة والتاريخ يسيران إلى أمام، والمطلوب اليوم «دولة ثالثة». وكما في الرؤى الفلسفية الهندية تقول إحدى القواعد «إذا التقى الرجل والمرأة المتناسبان والمتوافقان وارتبطا ببعضهما... يولد الشخص الثالث»، وهو ما يفترض أن يحدث للبنان الحالي...
ألا تريد المقاومة دولة؟ هي بالطبع تريد «دولتها»، ومن يقفون في المعسكر الآخر يريدون سيادة «الدولة» أي يريدون «دولتهم» التي ماتت منذ عقود، والرغبتان ليس لهما مستقبل، ولا يمكن فرض إحداهما أبداً على الأخرى بالقوة من دون المجازفة بتدمير لبنان. هذا إذاً زمن «الدولة الثالثة» والمناسبة سانحة. فطاولة الحوار المزمع عقدها قريباً ستكون أجدى إذا ما عقدت تحت هذا العنوان.
في المنعطفات الكبرى لا تكون السياسة البسيطة هي ما يلجأ إليه المجتمع، والفكر بحدود ما يكون هو القوة الأكثر ضرورة، حتى وإن كان من دون أسنان وبلا أسلحة أو صواريخ. فالسياسة تكون في العادة جزءاً من مولدات المأزق وعوامل تفاقمه، بما أن أساسه يكون قد تآكل. فالقوى والحركات والأحزاب تموت هي الأخرى بموت النظام الذي أنتجت في أرضه وعلى قاعدته. وموت هذه القوى يتجلّى أولاً في عجزها عن الانتقال من دائرة المعاش إلى رحاب المستقبل. أين يكمن اليوم أفق الحياة اللبنانية، في دولة الماضي ومنطقها، أم في المستقبل و«الدولة الثالثة»؟... إن لبنان التعددي المتنوع هو الهدف ومجال المعركة الفعلية والحقة وساحتها، إذا قيل بوضوح وإصرار: «نريد الدولة الثالثة بشرط أن تكون تعددية لا ينتصر فيها أحد على أحد ولا تحجب حرية، ولا بأس من أن تكون مقاومة، وقادرة، وخالية من الفساد». هنا تكون المعركة قد انتقلت نحو حيز معقول ومنطقي، يفضي إلى نتيجة على المستوى الوطني والتاريخي. حتى وإن هي طالت أو خيض بشأنها صراع قانوني وفكري وسياسي شامل. المهم أن يكون سياق المعركة قد غادر مماحكات الماضي، بدولتيه، الموازية والميتة اللتين عفا عليهما الزمن. فمن هنا، ووقتها، يصير بمقدورنا أن ننتظر انبعاث لبنان آخر، يحافظ على كل ما في كينونته من خصائص وأسس حية، ويكون حصيناً ضد آثار اللاتوازن الصارخ بين دولته المنتهية الصلاحية والحقائق المحيطة به.الحوار بين أطراف الخلاف يوشك على البدء، وهو يمكن أن يكون جولات تدور حول قضايا لا تلامس مباشرة العقدة الجوهر، فيطول النقاش ويطول، ويتعثر، أو يتوقف ثم يعود إلى حيث ابتدأ. ودعوني أقص عليكم قصة: مر جماعة في الليل ووجدوا شخصاً يفتش في الأرض، فأرادوا مساعدته وسألوه: ما الذي تبحث عنه؟ فقال فلوسي وقعت مني. عادوا وسألوه: أين بالضبط كما تعتقد حتى نساعدك؟ فأشار إلى الجهة الثانية من الشارع وقال: هناك. سألوه مستغربين: ولماذا تفتش هنا إذاً؟ فأجاب هناك لا يوجد ضوء.
* كاتب عراقي