خضر سلامة تجد كل ما يشبه الوطن ويشغله في حديث يجرك إليه الوقت العالق بين أذنيك، وصوت محدثك وراء المقود، لا شيء يضاهي لذة الكلام مع «شوفير» متعب، غالباً ما يخفي بطالةً تسمى مقنعة، والكلام يكاد لا ينتهي في رحلة «السرفيس» في شوارع بيروت.
سائقو السيارات العمومية، كانوا حتى الأمس في أشرس النقابات تحركاً واعتراضاً، قبل أن تدهسهم وحول السياسة التي أغرقت اتحادات العمال في الوطن المحاصر بخلافات أبنائه، ربما هم خير من يمثل بعفوية لسان الشارع والحي والزواريب والزوايا، يضايقهم صمت الركاب، يحفظون شوارع العاصمة كما يحفظون أسماء أولادهم «عملنا هو توصيل الناس، عملنا مع الناس، ونحن من الناس، والحكي بجر الحكي، وبضلو حكي الناس كمان». الكلام هو حاجتهم للتخلص من عبء الروتين، وعدم التحول إلى ماكينات أو مجرد قطعة مكملة لهيكل السيارة.
معظم العابرين، ركاباً في السيارات العمومية، لا تضايقهم أسئلة السائقين ولا كلامهم، فهو ملهاة جيّدة تخفف ثقل المسافة والوقت والزحمة، أضف إلى ذلك حسن اختيار المحدث لحديثه الصادر غالباً من نبض الحدث، «ففي وقت الشدة السياسية يكون «النق» سياسياً، وفي وقت الضيق الاقتصادي تكون «الشتائم» على قياس الهمّ المعيشي، وحتى في أعراس الرياضة للسائق «قرص» و«رأي»، هذا ما يدركه الركاب المياومون للسرفيس. قد تقع فريسةً سهلة لتحليل أمني أو استراتيجي يطالعك به السائق، ويلزمك بأن تختار بعناية تعليقك اللاحق المطلوب لإكمال لوحة الحديث...
وبعدُ أكثر، حكايات ستسمعها من السائقين، ذاك ترك قريته منذ زمن طويل واعتنق النمرة العمومية صحناً يشبع شيئاً من حاجته، وذاك يحكي عن سفره وعودته ومشكلات كثيرة أوصلته إلى مهنته المتعبة، وآخر يغرق الوقت بكلام يليق بباقة ورد، عن أحلامه المعلقة على أبنائه وإن قصّر قليلاً في تلبية طلباتهم، فالعين بصيرة... والحياة مريرة، وقصص أبعد، ذكريات من هنا، أخبار اليوم والشارع، طرائف ونكات.. أنت في «جمهورية السرفيس»، أمام ملك على عرش من كدّ وعرق، فاستمع جيداً. الآن، الموضوع الأهم الذي ينتظر الراكب هو سعر صفيحة البنزين المحلق بعيداً عن بساط السائقين الممزق، وسينتقل الحديث إلى حسابات الشهر والمصروف، ثم سيلتقط السائق أنفاسه ببطء تاركاً فسحةً لشتم الجميع «كلن كذابين».
تحاول أن تخفف من ألم الجمل والكلمات، تغير الموضوع، تشارك السائق في الشتم العام كي لا يدخل في الخاص، ويُحدث احتكاكاً غير محبب، يلفتك إلى أن عليك أن تدفع أجرة سرفيسين من بئر العبد إلى الروشة، «مع أن المشوار بيستاهل خمسة آلاف ليرة» تضحك وتناوله خمسة آلاف، يعيد العجوز المبتسم رغماً عن الهموم ألفاً قائلاً «بتُفرج يا ابني».
لا شك في أن المرسيدس المزينة بالنمرة الحمراء هي أحد أهم ملامح بيروت الشعبية منذ عقود، وإن ضايقتها قليلاً موضة السيارات اليابانية الـ«وفّيرة»، ولا شك أيضاً في أن كل ما يخبرك إياه سائقك المؤقت ممتع للقلوب المتقاسمة الآلام والهموم والطموحات، وإن لم يعجب العقل ولا الأذن، فهذا الصوت بخشونته وأساه، وهذا الحديث أو ذاك بما اكتنز من عفوية وبساطة ومزح وجد، كل ذلك آت من شعب طيّب، يغضب قليلاً، يخطئ كثيراً، يتألم كل يوم، ويظل طيباً.