ريمون هنودما ذنب البلاد؟ ما ذنب أرزاقها لكي تذرف دماً ودموعاً؟ الفيحاء أمّ الفقير تحتضر والفقير سيضحي يتيماً لا أمَّ له ولا أب، والسؤال المطروح: من سيحتضنه إذا انهارت مدينة (الإنسانية والعفوية) الفيحاء، ملاذ الفقير، لؤلؤة المدن العربية الساحلية من غزَّة إلى اللاذقية، يُغتال فيها التواضع والأمل، تُغتالُ فيها العفة والطهارة والمحبة. أبكيكِ كل يوم يا طرابلس، وأنا من يجب أن يبكيكِ خاصة، لكونك مسقط رأسي.في طفولتي علمتِني حب العروبة البعيدة كل البعد من جميع أشكال التمييز الطائفي والمذهبي والطبقي. عروبة عبد الحميد والرشيد وجمال عبد الناصر، وكيف لا أفتخر بك يا طرابلس وأنت أول مدينة عربية بشّرت بالاشتراكية وبانتصارها قبل سنوات عديدة من انتصار ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا نفسها.
أنت التي بشرت بالاشتراكية من خلال ابنك البار المفكر الطليعي فرح أنطون الذي كان يُلحُّ على ضرورة انطلاق هذه الثورة المجيدة في بلادنا، وضرورة انتصارها، ويكون ذلك الانتصار بتكوّنها من تجمّع قوى العمّال وسائر القوى التقدمية والثورية.
وكيف لا أفتخر بك يا مدينتي وأنت منجبة نقولا الشاوي. كيف لا أفتخر بك وأنت من علّمني عشق الكروم والبيادر والمطارق والمناجل، وأنا الذي كنت أرسم على جدرانك المطارق والمناجل في عام 1982، وكنت في الحادية عشرة من عمري حين دنّس جيش العدو الصهيوني شوارع مدينة بيروت الوطنية، وحيث تمكن المناضل الشيوعي جورج حاوي ورفاقه من تحريرها وتطهيرها من النجاسة الصهيونية. مؤسف حقاً ما يجري بين الباب والبعل.
البلاد كفرت جرّاء عربدة تلك الممارسات الشاذة التي لا تصُبُّ إلاّ في خدمة بروتوكولات حاخامات التلمود، ليس فقط في التبانة وجبل محسن فحسب، بل في كل أزقة الوطن وزواريبه، فالعنف الوحشي الشاحن للغرائز يؤجج نار فرّق تسد المُعوَّل عليها من الوحشية الصهيونية ويذكيها. بالتالي، إنّ قضيتنا المركزية فلسطين هي الخاسر الأوحد، والأطماع الصهيونية بلبنان والوطن العربي تكون الرابح الأكبر. وطرابلس تلك المدينة العربية العريقة تبكي مكسور خاطرها، عندما ترى أبناءها فلذات أكبادها يعيدون من خلال تجاوزاتهم طمس معالم تلك المدينة وهويتها وتاريخها ونضالها، والتي شاركت مشاركة أساسية وفعالة في إسقاط كل المؤامرات التي حيكت ضد الوطن والأمة، بدءاً من اتفاق 17 أيار 1983 المشؤوم. فالمطلوب من جميع المتناحرين الشروع بنقد ذاتي صائب، وإطلاق العنان لصحوة جبارة تليق بتلك المدينة التي أنجبت عبد الحميد كرامي، أحد كبار رجالات الاستقلال الذين كانت لهم اليد الطولى في دحر الاستعمار الفرنسي عن لبنان وتحقيق استقلاله عام 1943. فعلى الذين يغتالون طرابلس أن يعوا أن هذه المدينة البريئة محبة للسلام ورافضة لكل أشكال الخنوع والذل والاستسلام، وعارٌ أن تُراق دماء الصالحين في سبيل إرواء ظمأ الموتورين والأغبياء والمرتشين...
ما ذنب طرابلس؟ هل هي التي خانت الرسول وصلبت المسيح؟ فيا من تتناحرون عبثياً ومجانياً، احزموا أمتعتكم ووفروا رصاصاتكم وهلمّوا إلى الحدود مع فلسطين المحتلة لنبدأ بالتحرير، فهنالك النضال في سبيل استرجاع الشرف، هنالك تُستعمل فنون القتال، لكن ضد المغتصب فقط، هنالك النجومية. أما إذا استمرت ما بين الباب والبعل فالوطن مجدداً غريق في بريستو (presto) المذهبية والقبائلية والعشائرية.