وائل عبد الفتاحفي المسافة بين «جزيرة الزمالك» و«غاردن سيتي»، يتلخّص مشوار محمد منير. في ساحة الأوبرا جمهور من صعاليك المدينة، هيبيّون على الطريقة المصرية، يحضرون بالآلاف حفلاته... وبيته في غاردن سيتي، حيّ الأمراء السابقين (أيام الملكية)، والأمراء الحاليين (وزراء العصر وأثريائه): «هنا البيت الثالث لي في القاهرة. الأول كان في شارع السودان حيث الزحام الكبير. كان بيت العائلة، حملنا حقائبنا من أسوان إليه بعد رحلة شقيقي الكبير سمير. أول بيت لي وحدي في شارع البصرة في المهندسين. لكن بيتي هنا هو البيت». يسألني: «تقعد هنا والا نخليها شعبي»، أي إنّه يخيّرني بين البقاء في الصالون، ودخول حجرته أو صومعته... حيث يقيم مع التلفزيون والاستيريو الضخم وصور ومقاعد. هنا يقضي أغلب ساعات يومه وراء باب مغلق، هو الهارب من المدينة إلى المدينة.
يتعجّب الأصدقاء عندما يصف لهم منير عنوانه: «أنا ساكن في البلد» يقصد قلب القاهرة. «آه. أنا ابن مدينة كبيرة». منير يحب المدن البعيدة وأساطيرها. يجمعها في حقيبة السفر، ويتلاشى غريباً في شوارعها. الغربة لها طعم حلو ومر في مدينة مثل القاهرة. تذوب فيها وتنفصل عنها. بينهما، يمكن أن تلتقط دبيباً غريباً... ومشاعر إذا التقطتها، فستجد نفسك. هذه هي موسيقى المدينة التي تؤلف بين إيقاعات متناقضة. يحكي منير: «في ألبومي الأول، لمسَتْ أغاني الغربة كثيرين. كل الناس كانوا يحملون حقائب سفر». عثر على كنزه في ألحان أحمد منيب وكلمات عبد الرحيم منصور. الأول نوبي موسيقاه مشحونة بشجن غريب لبلاد ابتلعها النيل، والثاني كلماته مجرى نهر ممتد من أحزان مهاجرين مجروحين وعشاق.
من هذه العجينة، التقط منير صوته الخاص ليصبح مغني المدينة جامعاً بين الأمراء والصعاليك، بين الحسية والصوفية، النوبة والقاهرة. موسيقى جذورها أفريقية، وأغنيات من طرب قديم. منير رحلة إلى موسيقى متعددة، قاسية في مزاجها السريع وودودة في تقبل الاختلاف. يشير إلى النافذة: «من هنا، خرجت أغنية طعم البيوت» (الأغنية الرئيسية في ألبومه الأخير). «كنت أسمع صوت العجوز الوحيدة تنادي أولادها الغائبين، والضابط المتقاعد يلعن الزمن. أسمعهما ويختفيان. كل مرة، نكتشف جزءاً من حكايات الحي ــــ نحن الغرباء، الصعاليك القادمين من خارج عالمه ــــ ثم تغلق الحكايات أبوابها... علينا وعليهم. على الجنايني وعلى الوزير كما قالت الأغنية».
الحنين إلى البيت، على طريقة المدينة، خيط خفي صنعت به أغنية منير الذي كان شريكاً مع المؤلف والملحن في اختيار روح الأغنية. يختار منير الموسيقى كما يفعل مصمم البنايات، حين يستخدم خبرته ومخزونه الحسي في اختياراته. منير أصبح يعرف مزاج الجمهور. لكنه ما زال يستكشف مناطق مجهولة يغامر بها. أحياناً تفشل، لكن غالباً ما تصبح علامة على طريق جديد. منير لا يختار الموسيقى كمتسوق في سوبر ماركت، فالموسيقى حلم خاص. رحلة بحث مرهقة بدأت من محاولة الجمع بين صوت نوبي من ذاكرة الطفولة يغني بإيقاع (بعيد عن الخماسي) وعبد الحليم حافظ. «هما معاً كوّنا مزاجي الموسيقي. وحتى الآن، حلمي هو اللقاء بينهما».
لم تكن هناك هوة، في وجدان منير، بين الصوت النوبي الآتي من بعيد في سهرات الشجن، وصوت حليم الطاغي على العواطف السياسية والغرامية. من الهامشي والسائد، صنع منير مساره في غابة الأصوات التي حاولت في الثمانينيات أن تكون «وريِِثة»عبد الحليم و«البديل» لرومانتيكية مترهلة ابتلعت الأغنية العربية. المغنّي الآتي من بلاد ذاكرتها حاضرة وهي غائبة، يتذكر لحظة وصول عبد الناصر وخروتشيف لتدشين السد العالي: «شقيقي هرول فرحاً يبشرنا. كنّا أيّامها من المتيمين بعبد الناصر. ولم نتوقع أن تشيح جدتي ــــ حكيمتنا ــــ بوجهها». من يومها، اختلط العشق بالغضب والذوبان في المحيط، بمقاومة النسيان. لم يستسلم منير للاندماج الذي ابتلع أهله المنسيين، بل أحيا النوبة، سرّبها بهدوء إلى وجدان عمومي لا يعترف بها.
محمّد منير نفسه، أصبح مألوفاً بلون بشرته ونحافته وأناقته البعيدة عن أناقة نجوم الطرب، وشعره غير المهذب، وحركات جسده الغريبة عن مطربي العواطف. أصبح لمنير مستويات من الجمهور: الأول يبحث عن ذوق بعيد، عن مزاج العائلة في الثمانينيات. والثاني يعشق الموسيقى الخارجة عن الشرقية الكلاسيكية التي تستقي مشاعرها في الجاز والأفرو أميركان والراي وكل الاتجاهات البعيدة عن الأذن الرتيبة. والمستوى الثالث جيل جديد من المراهقين يجدون في منير مساحة تخصهّم، مفتوحة على موسيقى العالم. وهذه واحدة من ملامح موسيقى المدينة الكبرى، جامعة المتناقضات. يخرج منير إلى الساكسفون المميّز لرومان بونكا (الموزع الألماني رفيق رحلته الموسيقية في الـ 15 سنة الأخيرة)، ويعود إلى ناي الشجن في الحان كمال الطويل وبليغ حمدي (مع أغنيات وردة ونجاة)... بل يحلم بالغناء لعبد الحليم الذي يحبه.
منير متعلق ببيته القديم في أسوان، بالتحديد وسط الحي الذي هاجرت إليه الدفعات الأولى من أهل النوبة مع بناء خزان أسوان (في الثلاثينيات). «عرضت علينا مبالغ كبيرة لنبيع البيت لكننا رفضنا». بنى بيتاً آخر على هضبة عالية تطل على النيل. بيته دخل حكايات البحارة وأهل المراكب الشراعية، وصار في كتالوغ المدينة: إذ إن الدليل السياحي يشير إليه كما أنه بيت ملك شعبي ما زال على قيد الحياة.
وهو «ملك» كما يلقّبه عشاقه المجانين. تجذبهم روح التمرد التي قادت منير إلى اختياراته، منذ اكتشافه في أجواء يسارية قاده إليها شقيقه الأكبر الذي أدى دور الأب الثقافي والروحي. في هذه الأجواء، تكوّن ثالوث عبد الرحيم منصور الذي كتب أغاني بالعامية المصرية على ألحان منيب. غناها منير. «الغربة» و«الحبيبة السمراء» و«شجر الليمون» أغنيات من خارج الكتالوغات السائدة: لا هي قديمة ولا فرانكو آراب! يحلم منير بفيلم عن حياته. مشهد البداية يكون الصدمة التي عاشها عندما قامت تظاهرات ضدّه وهو يصور مشاهد من فيلم «اشتباه» مع نجلاء فتحي، في كليته (الفنون التطبيقية حيث درس التصوير السينمائي والفوتوغرافي)، أي في المكان نفسه الذي خرج منه في تظاهرات الطلبة سنة ١٩٧٢. الفرق بين اللحظتين تلخّصان ما حدث لمصر. هل ستقول كل شيء في الفيلم؟ يضحك: «هل تريدني أن أحكي عن مغامراتي الغرامية؟». منير ابن حياة يحبها. ملك من ملوك الليل. يلمس الملذات بطرف لسانه ولا يغرق فيها. «تعلمت أنّ الحياة مزيج من أشياء تبدو متناقضة. في أفراح النوبة، كانوا يغنون أغاني مديح الرسول. أغاني صوفية أديتها في ألبوم «الأرض والسلام». وقبل ذلك كان هؤلاء أنفسهم يجلسون على الجبل يشربون الخمور. أنا استمعت واشتريت لهم زجاجات محلية من الخمر. كنت أقطع هذه المشاوير لأني كنت الصغير بينهم».
منير الآن في منتصف الخمسينيات وروحه شابة، يضحك وهو يتكلم عن عمره الحقيقي. يسخر من علامات السن. هل سيظل شاباً ومتمرداً وخارجاً عن المألوف؟ كيف سيبدو، والشيخوخة تداعبه، بعد... عشرين سنة؟


5 تواريخ

1954
الولادة في أسوان حيث كان والده موظفاً مسؤولاً عن الشؤون المالية والإدارية في مديرية المدينة
1975
تخرّج من كلية الفنون التطبيقية وغنى لأول مرة أمام جمهور من مجندي دفعته في الجيش
1977
ألبومه الأول «علموني عينيكي». لكن النقلة النوعيّة ستأتي مع ألبومه الثالث «شبابيك»
1986
غنى في مسرحية سعد الله
ونوس «الملك هو الملك». وكانت بداية مرحلة جديدة في مشواره
1997
دور المغني في فيلم يوسف
شاهين «المصير»، وفيه أدّى «علّي صوتك بالغنا» التي كانت علامة خروجه من مرحلة ارتباك فني