الياس العشيعندما عاد المسيح إلى بيت لحم والقدس والناصرة وقانا، ليتفقّد شعبه ويسأل عن الأطفال الذين، باسمه، ذبحهم هيرودس، ويسأل عن خوابي النبيذ المستبدل نبيذها بدم الصغار والشيوخ والنساء، ويسأل عن سمعان القيرواني ومريم العذراء والمجدلية ويوحنا الشاهدين على اغتياله، لم يجد في استقباله إلّا محمود درويش.
رحّب محمود درويش بالسيّد المسيح، وأسمعه بلغة العصافير كيف وُلد في البروة، وكيف تبخّر منها وكيف يعود إليها اليوم، وكيف سيكون إلى الأبد الصوت الذي لا يسكت.
وكنت أنا شاهداً على ذلك، فأنا ومحمود درويش من جيل واحد، أكبره بعامين ويسبقني بمئة سنة ضوئية.
أنا إنسان عادي، رأيت، وكنت طفلاً، قوافل اللاجئين وخيامهم ومفاتيح بيوتهم وعيونهم المسكونة بحلم العودة. سمعت أجراس الكنائس وصوت المؤذن في بكاء صغارهم ودمعة شيوخهم، ولكنني، وقد كبرت، لم أستطع أن أحوّل هذه المشاهد إلى رؤية، ومحمود درويش فعل ذلك...
محمود درويش قاتل، حتى وهو يتمدد في غرفة العناية الفائقة، محمود درويش خطط لرؤية شعرية تخرج القصيدة العربية من هودج البادية ومن سجن القوافي ومن الإيقاعات الرتيبة ومن الغنائية إلى المواجهة.
محمود درويش في «جداريته» وقبلها «سجل أنا عربي»، وفي كل كلمة قالها على ورقة أو فوق منبر، كان يثبت أنه شاعر غير عادي لوطن غير عادي، لشعب غير عادي، ولأطفال غير عاديين استبدلوا ألعابهم بحجارة صارت جزءاً من حكاية المقاومة.
هل مات فعلاً محمود درويش؟
عندما تنطفئ نجمة لا ينطفئ شعاعها، لمئات السنين تبقى شاخصة إلينا. محمود درويش الذي سبقنا في إبداعاته ومواقفه وتحديه، سيبقى النجمة التي ستقودنا إلى بيت لحم والناصرة والقدس لنشارك في إقامة أقواس النصر.