سماح إدريس *«هل كان علينا أن نَسقُطََ من عُلوٍّ شاهقٍ، ونرى دمَنا على أيدينا، لنُدركَ أننا لسنا ملائكةً كما كنّا نظنّ؟ وهل كان علينا أيضاً أن نَكشِفَ عن عوراتنا أمام الملأ كي لا تبقى حقيقتُنا عذراء؟ كم كذَبنا حين قلنا: نحن استثناء! أن تصدِّقَ نفسَكَ أسوأُ من أن تكذِبَ على غيرِك!». هذه ليست كلماتي، بل كلماتُ الشاعر الكبير الراحل محمود درويش. ما أشدَّ انطباقَها علينا، نحن اللبنانيين اليومَ، ونحن نَكشِفُ عوراتِنا على امتداد ثلاثةِ أيام بكاملِها: هذا يدافع عن السلفيين لأنهم سلاحُه ضدّ الشيعة، جاهلاً أو متجاهلاً أنهم سينقضّون عليه عمّا قريب؛ وذاك يدافع عن حقوقِ المسيحيين بعد أن أوهَمَنا أنه عَلماني حتى العظم؛ وذلك يريد منعَ الجميع من التفوّه بكلمةٍ ضدَّ حزبه. هذا يستغلّ منبرَ المجلسِ النيابي ليبدأ حملتَه الانتخابيةَ الجديدة، حاصراً همَّه في مَنطقتِه وزاروبِه وطائفتِه؛ وذاك يقدِّمُ أوراقَ اعتمادِه إلى هذه الدولة أو تلك، متشدّقًًًا رَغم ذلك بالسيادةِ ورفضِِ الوصايات الأجنبية؛ وذلك يَشْهَرُ فزّاعةَ الفلسطينيّين في لبنان ليعيدَ حشدَ مِلّتِه مِن خلفِه.
والغائب؟ الغائبُ هو المواطنُ الذي تحوّل إلى هتّافٍ يسبِّحُ بحمدِ زعيمٍ يَبْلع المائدةَ ويتصدّقُ عليه بالفُتات. والغائبُ هو الدولةُ التي يتناوبون عليها، واحداً تلو الآخر، ثم يمجِّدونها كذِباً ونفاقاً. والغائبُ هو الديموقراطيةُ التي أضافوا إليها نعتاً مضحكاً يناقض جوهرَها، ألا وهو نعتُ «التوافقية» في قولهم: «الديموقراطية التوافقية». والغائبُ أيضاً هو الوحدةُ الوطنيةُ التي حوّلوها محاصصاتٍ طائفيةً ومذهبيةً وزعاماتيةً، كأنه يكفي أن يتّفقَ الطائفيون والمذهبيون والزعماءُ ليتوحّد الوطن!
وها هم في الدوحة منذ قليل اجتمعوا وتصافحوا وتعانقوا، وسَخِروا من وثيقة الطائف التي يستند إليها الدستورُ، والتي تجعل من المحافظةِ لا القضاء دائرةً انتخابية. وضربوا عُرْضَ الحائطِ بمئاتِ الاجتهاداتِ القانونية والحَملات المدنيةِ المطالبةِ باعتمادِ التمثيلِ النسبي أساساً للانتخاب بدلاً من النظام الأكثري المجحِفِ بحق مئاتِ الألوفِ من المواطنين الذين لا ينضوون تحت كُتَلِهم الصَّمّاءِ المتكلّسة. وبَصَقوا على كلِّ الشبابِ والشابّات ما دونَ الحادية والعشرين من أعمارهم حين منعوهم من الاقتراع. ويحاولون تجاهُلَ المطلبِ العادلِ بتأليف المجلس الدستوري من أجل توفير إمكان لتقديم الطعون.
وهم يفعلون ذلك كلَّه من دون أن يتّخذوا أيَّ إجراءاتٍ جذريةٍ لحلّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتعليمية... ثم ينادون، و«بكلِّ عينٍ وقحة»، بالسّلم الأهلي. فمن أين يأتي السّلْمُ الأهلي والناسُ جائعون ومقسومون ومتربّصون بعضُهم ببعض؟
«الهُويّةُ هي ما نوَرِّثُ لا ما نرِثُ، ما نخترعُ لا ما نتذكّر. الهُويّةُ هي فسادُ المرآةِِ التي يجب أن نكسِرَها كلّما أعجبتنا الصورةُ!».
هذا الكلامُ أيضاً ليس لي، بل للراحل محمود درويش، شاعرِِ فلسطينَ ولبنانَ والوطنِ العربيّ. أسعداءُ نحن حين نَنْظُرُ في المرآةِ فنرى أنفسَنا قُطعاناً تَسُوقنا طوائفُنا ومذاهبُنا وزعماؤنا للذبح؟
قد لا نستطيعُ أن نورِّثَ اليومَ شيئاً بسبب الحصار الطائفي والمحسوباتيّ، لكن علينا أن نورّثَ شيئاً مفيداً غداً أو بعدَ غد. وقد لا نستطيع أن نخترعَ شيئاً اليوم، لكن علينا أن ننظّمَ أنفسَنا ــــ نحن الوطنيين العَلمانيين ــــ كي نخترعَ شيئاً ناجعاً يمنعُنا من الذبحِ والتذابحِ غداً أو بعدَ غد. فإنْ لم نبدأْ الآن، فلن نكونَ إلاّ مرآةً لذواتِنا المتقاتلةِ المتناحرةِ منذ عام 1860.
* رئيس تحرير مجلّة الآداب
(كلمة ألقاها في يوم اللقاء الوطني
رفضاً لقانون الانتخاب)