أسابيع معدودة تفصل المتخرجين من المرحلة الثانوية عن استقبال عامهم الجامعي الجديد، منهم من اختار الاختصاص بثقة وحماسة، ومنهم من ينتظر الإلهام أو التوجيه كي لا يقع في محظور التسرّب
فاتن الحاج
أيها الطالب، ها أنتَ على عتبة اتخاذ قرار بشأن مسارك التعليمي، هل سألت نفسك: «من أنا؟ ماذا أريد؟ ما هي ميولي وقدراتي؟ ما هو تصوري للمستقبل؟»، أم أنّك تفترض أنّ الاختصاص الذي ستختاره حل مؤقت لاختبار الوضع؟
مقاربة يطرحها الاختصاصيون في التوجيه العلمي والمهني، انطلاقاً من خلفيات التسرب الجامعي. فبعض الطلاب يجهلون، برأي الموجهين، الاختصاصات الجامعية المتاحة وماذا يقدم سوق العمل من فرص في مجالات محددة. كذلك قد لا يملك المتخرجون من المرحلة الثانوية التفاصيل المرتبطة بالمواد، فينبهرون بالسمعة العامة لاختصاص ما (مصدرها أحاديث الأهل، الرفاق، الجيران، الإعلام ...)، ويُقدِمون عليه ليُفاجأوا، خلال العام الجامعي، بعدم القدرة على الاستمرار. والسبب يعود إما إلى عدم توافر المهارات الشخصية لدى الطالب نفسه، أو وجود مصاريف جانبية لم يحسب الطالب وأهله لها حساباً. ويبقى أنّ العامل الاقتصادي أساسي في اختيار الاختصاص بالنسبة إلى الطلاب الذين يضطرون نتيجة الظروف المعيشية لمغادرته إلى اختصاص آخر، وإن كان البعض يتآلف مع البقاء خارج الجامعة، ويفترض أنّه لم يعد بالإمكان المتابعة بسبب الحاجة إلى العمل.
أما عدم توافر مقاعد في اختصاصات في الجامعة اللبنانية كإدارة الأعمال أو الهندسة، فيصيب بعض الطلاب بالخيبة التي تدفعهم إلى هجرة الدراسة الجامعية. ثم إنّ طبيعة بعض الأساتذة تجعل من التسرب إحدى القضايا التي تمثّل خطراً على العقل المعرفي في الجامعة اللبنانية تحديداً. وهنا، لا يتردد مدير معهد العلوم الاجتماعية ـــــ الفرع الأول الدكتور محسن صالح في القول إنّ القساوة التي يتبعها الأساتذة في تقويم الطلاب تؤدي إلى التسرّب. كذلك فإن التوجيه لا يزال جنينياً، بحسب محسن، والدليل «أنّ هناك على الأقل ألف طالب يدخلون سنوياً إلى الفروع الخمسة للمعهد، لمجرد أنهم لا يُلزمون بمباراة دخول، أو لأنهم مسؤولون أمام المجتمع، في إطار التقدير الذاتي».
من جهته، يوضح مدير كلية العلوم ـــــ الفرع الأول الدكتور علي كنج أنّ 20 في المئة من طلاب السنة الأولى يتسربون منذ امتحان الفصل الأول، لغياب اختبار الكفاءة، مقابل التساهل في الامتحانات الرسمية.
في المقابل، فإنّ أسباب التسرب من الجامعات الخاصة تكون شخصية في الغالب، لكون الطالب يدخل إلى الجامعة بناءً على علاماته وقدراته المادية. لكن مديرة مكتب التوجيه في الجامعة الأميركية، مريم غندور، تسجل بعض الحالات القابلة للتسرّب «لولا مرونة النظام التي تسمح لنا بمساعدة الطلاب على تبديل التخصص بما يتلاءم مع نقاط قوتهم وضعفهم». ومع ذلك، فبعض الطلاب لا يعرفون كيف ينظمون وقتهم ويوازنون بين الدرس واللهو لفقدانهم مهارة الانضباط والتنظيم، ولا سيما أنهم ينتقلون من مرحلة نظامية إلى مرحلة مختلفة تماماً. وهنا يأتي دور المكتب لإنقاذ هذا البعض من التسرّب الذي قد يكون أحد أسبابه أيضاً عدم إتقان اللغة الأجنبية، فالطالب قد ينجح في اختبار اللغة الإنكليزية، لكنه يعاني في ما بعد عجزاً في فهم مواد الاختصاص. ورغم ذلك تنفي الأستاذة في علم النفس التربوي، ومديرة مكتب التقويم في الجامعة، الدكتورة كرمة الحسن أن يكون التسرّب ملحوظاً، فطالب «الفرشمان» يخضع لمتابعة دقيقة وتغذية راجعة (feedback) ومقابلة المشرف لمواجهة مرحلة قد لا يكون مستعداً لها شخصياً ونفسياً. كذلك تسعى الجامعة الأميركية، بحسب الحسن، إلى بناء الشخصية المتكاملة للطالب، عبر تخفيف مواد الاختصاص وإخضاعه لمواد تعزز امتلاك القدرة على التواصل في سوق العمل. لكن الحسن تنصح الطلاب: «لا مشكلة إذا لم تجدوا الاختصاص الذي يلبي طموحاتكم في الإجازة، لأنكم تستطيعون أن تغيّروا في الماستر، فقرار معرفة هويتكم والوصول إلى النضج والاستقرار في شخصيتكم لا يؤخذ بين ليلة وضحاها، من هنا أهمية التركيز على سياسة التعلم مدى الحياة».
على صعيد آخر، ثمة جمعيات أهلية قطعت شوطاً في التوجيه التربوي والمهني، وباتت تمتلك طرقاً خاصة في كشف ميول الطلاب وقدراتهم العلمية وشخصيتهم المهنية. ومن هذه الجمعيات المركز الإسلامي للتوجيه والتعليم العالي الذي يسعى في العام المقبل إلى جعل التوجيه حصة دراسية أسبوعية في الثانويات. يشرح مدير التوجيه في المركز كمال لزيق الاستراتيجية المتبعة، فيقول: «نضع في متناول الطلاب أكبر كمية ممكنة من التفاصيل عن الاختصاصات وسوق العمل، ما يساعدهم على التموضع». ويضيف: «نجري اختبارات عالمية لاكتشاف الشخصية المهنية، كما نعتمد نظرية الذكاءات، لإكساب الطالب مهارات التعلم والحياة ومساعدته على وضع أهداف محددة قابلة للتطبيق».
أما النقلة النوعية في عمل المركز فهي ورش العمل التي بات ينظمها في المدارس حيث يقدّم محاور التوجيه في الصفوف بواسطة مجموعات عمل ناشطة توفر التفاعل مع الطلاب.
يذكر أن التوجيه يأخذ شكلين، فإما أن يحضر الطالب إلى مقر المركز لتقديم الاستشارة بشكل فردي، وإما أن يكون التوجيه جزءاً من العملية التعليمية. وينسق المركز مع إدارات الثانويات الخاصة والبلديات التي تدعم البرنامج في المدارس الرسمية، ومصلحة الإرشاد والتوجيه في وزارة التربية الذي لا يزال دورها قاصراً عن القيام بالمهمة.


رسوب فتسرّب

اختار علي حسين «الاجتماع والاقتصاد» لأنه يهوى عالم المال والأعمال. رسب في مباراة الدخول إلى «إدارة الأعمال» في الجامعة اللبنانية، فدخل مجبراً على «العلوم السياسية»، لأنّ قدرته المالية لم تسمح له بدفع الملايين في الجامعات الخاصة. شعر علي بالإحباط فترك الاختصاص، وعمل في أحد السنترالات. ثم أراد أن يجرّب حظه فيه في العام الثاني من دون جدوى. قرر علي أخيراً أن يدرس العلوم المصرفية في أحد المعاهد المهنية.