ثمة عناوين لا نلتفت إليها عند الحديث عن الوضع الاقتصادي المتردّي، لا نتنبه إلى أن بعض الأسر الحديثة صارت تضحي باستقلاليتها لتجد سقفاً يؤويها، الحماة والكنة في بيت واحد، لحظات الحب الحميمة تندر، كأن الزمن يعود عقود إلى الوراء يوم كان الزوجان تابعين لأسرة أكبر، لا يتزوجان بسبب الحب الذي يربطهما بل تلبية للأعراف والتقاليد. هنا قصتان مؤلمتان عن عودة الأزواج إلى منزل العائلة الكبرى

هيثم خزعل
يعيش يوسف وزوجته مريم وابنهما رائف في منزل أهل مريم مع عائلتها المؤلفة من ستة أفراد. قصة العائلة ليست استثناءً، فقد أصبحت ظاهرة اجتماعية يكرّسها التدهور المفزع للأوضاع الاقتصادية.
جهد يوسف كثيراً في سبيل الارتباط بمريم، كان يعمل 16 ساعة يومياً لتحسين وضعه المالي. وبعد الكد استطاع ادّخار مبلغ يسمح بتأسيس عش الزوجية «ولو على قد الحال». استأجر الشاب شقة متواضعة في منطقة الرمل العالي التي تُعدّ ملجأ الفقراء. تزوّج الخطيبان، وكانت الأشهر الخمسة الأولى من الزواج «دافئة كالحلم». بعدها تعرّض يوسف لحادث اضطره للتوقف عن العمل ثلاثة أشهر، فُصل خلالها من وظيفته حارساً لإحدى الشركات. «على مضض» انتقل الزوجان للعيش في منزل الأهل المؤلف من ثلاث غرف، حيث سكنا إحداها. وهنا بدأت رحلة المعاناة كما يرويها «لا عشاء خاصاً ولا لحظات حب دافئة ولا حرية في الكلام أو التصرّف، إذ تشعر بأن هناك دائماً من يراقبك، ويتدخل في تفاصيل حياتك. أحسّ الزوجان بأن «سعادتهما واستقلاليتهما أُصيبتا بانتكاسة كبيرة».
انتقادات وشجارات بالجملة يتلقاها يوسف وزوجته صباح مساء، والأسوأ أنهما كانا يضطران إلى «كبت مشاعر الحب المستعرة» وإلى الانتظار حتى يغفو كل سكان المنزل، ليسرقا كزوجين لحظات الحميمة. بهدوء مع طلوع الفجر، كان يوسف يقوم للاستحمام، فيصدف في بعض الأحيان أحد الأقرباء الذي غالباً ما يجود بنظراته الساخرة.
انقضت ثلاث سنوات والحال لم تتغير، أنجبت خلالها مريم طفلاً اختارت له أمها اسم رائف دون الرجوع إلى رأي يوسف. زاد وجود الولد الصعوبات في حياة أهله، قاسمهما غرفتهما، ما أدى إلى تقليص مساحة الحرية الضئيلة أصلاً بالنسبة إليهما.
مع مرور الوقت، يبدو الزوجان مستسلمين للأمر الواقع، ,في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، ينصح يوسف الفقراء «بألا يتزوجوا، فحين يدخل الفقر من الباب يهرب الحب من الشباك».
لرامي وحنان قصة مماثلة. تزوج الثنائي بعد قصة حب استمرت أربع سنوات، تقدم خلالها رامي لخطبة حنان ثلاث مرات دون أن يحظى بموافقة أهلها، لأنه ينتمي إلى طائفة مختلفة عن طائفة العروس. أمضى الزوجان عامهما الأول في عش الزوجية، وأنجبا خلالها ابنهما. بعد فترة ساءت أحوال رامي المالية، فشركة الهندسة التي كان يعمل فيها أقفلت أبوابها، فشل رامي بعدها في الحصول على وظيفة في اختصاصه كمهندس ديكور. مكث الزوج في المنزل ثلاثة أشهر دون عمل، وتلقى إنذاراً من صاحب المنزل الذي يعيش فيه، واضطر إلى إخلائه تحت طائلة رفع دعوى قضائية، وذلك بعد أن تخلّف عن دفع إيجار شهرين. قرر رامي الانتقال مع عائلته للمكوث مؤقتاً في منزل أهله. يذكر الشاب أنه بكى من شدة تأثره يوم الانتقال «حين استأجرنا المنزل كان لا يصلح للسكن، لكننا حوّلناه إلى مكان رائع، مستفيدين من خبرتي في هندسة الديكور».
كانت فترة انتقال الزوجين إلى منزل أهل رامي حبلى بالمشكلات، فأهله لم يكنّوا الودّ لزوجته «لأنها من طائفة مختلفة»، وكانوا يعاملونها بازدراء.
عمل رامي خلال هذه الفترة سائقاً عند أحد الأطباء، وكان يتقاضى راتباً لا يزيد عن 400 دولار. أمضت العائلة خمسة أشهر في منزل أهل رامي، تحوّلت فيها يوميات الرجل وزوجته إلى جحيم. كان الزوج يأتي من عمله ليلاً فتسارع كل من زوجته وأمه، وتروح كل واحدة تشتكي من الأخرى، ليتحوّل إلى حَكَم يبتّ في أمور المتشاجرين.
الراحة والاستقلالية مفهومان نسيهما رامي، وعاش مع نوبات من الغضب والعصبية الشديدة، وأنهكته المشكلات السائدة في المنزل. انهارت الزوجة وتركت البيت واضعة رامي أمام شرطين: إما الانتقال من منزل ذويه وإما الطلاق.
تردد رامي بادئ الأمر نظراً لظروفه المالية السيئة، لكنه حسم أمره بالانتقال بعد إصابة ابنه الذي لم يتجاوز عمره الخمسة أشهر بالتهاب رئوي بسبب دخان النارجيلة التي يدخنها إخوته. اضطر رامي إلى البحث عن حل لمشكلته كي يتجاوز الخلاف مع إخوته الذين جرّحوا بزوجته مراراً.
ترك الشاب وظيفته في بيروت وانتقل مع عائلته للعيش في منزل أهل حنان الخالي في بعلبك. غادر رامي بيروت التي أقام فيها ثلاثة عشر عاماً على مضض. أُجبر على الابتعاد عن أصدقائه والانتقال إلى بيئة اجتماعية تختلف عن بيئته القديمة. يعمل رامي حالياً في مصنع في البقاع حيث يتقاضى 400 دولار شهرياً، وهو مبلغ يكاد لا يكفي عائلته، يختنق كلما يدرك أن خياراته في الحياة محدودة، يتنهّد عندما تحدّثه عن وضعه، يجيب بجملة صغيرة «حين يدهم الفقر بيتك، يصبح الحب من الكماليات».


حماية العامل وأسرته

يصعب بالطبع إصدار قانون يحمي استقلالية أسرة ما، ولن نجد جمعيات تدافع عن حق أي زوجين بالعيش منفصلين عن ذويهما، بل إننا لا نجد دراسات عن هذه الظاهرة الآخذة في الازدياد في لبنان. لكن المؤلم أن عدداً كبيراً من أرباب العمل لا يفون العمال حقهم، ويؤدي الخوف من فقدان أية فرصة عمل بالبعض إلى تجنّب «إثارة المشكلات»، أي رفع دعوى ضد صاحب العمل في حال تهرّبه من مسؤولياته، وعدم التخلي مثلاً عن عامل تعرّض لحادث واضطر للغياب لفترة وجيزة. وللتّذكير فإن القانون اللبناني الصادر في 23/9/ 1946 في المادة 50 منه، ينصّ على أنه يحقّ لكل من رب العمل أو العامل أن يفسخا عقد العمل بينهما، على أنه في حال الإساءة أو التجاوز في استعمال هذا الحق، يحق للفريق المتضرر أن يطالب بتعويض يقدر وفقاً لعدد سنوات العمل.