وليم نصاربيني وبين الناصرة تاريخ من القهر، والدمع والحلم المصادر. بيني وبين يافا شجرة برتقال حزينة، حلم مكسور وقلب متعب. بيني وبين غزة كاتب تقارير، مخيمات لاجئين ومليون مذبحة.
البارحة، تذكرت فجأة أنني نسيت تفاصيل وجهي. وقفت أمام المرآة لأمارس عادة يكرهها الرفاق، اسمها النقد الذاتي، فرأيت بعض الشعيرات البيضاء في رأسي، ولم أرتعد، بل شكرت الرب المعلم الإله على نعمته التي جعلتني أعرف أين كنا وأين أصبحنا.
شعيرات بيضاء قليلة جعلتني أعرف الفرق بين فلسطينكم وفلسطيني. فلسطينكم كراسٍ، وعروش، وألقاب فخمة زائلة حتماً... فلسطينكم التي تريدون، وطن مفصَّل على مقاس حسابات بنوككم أو الراتب الشهري حسب درجة الطاعة.
فلسطينكم شرطة وسجون، أقلام بلا ضمير، لا تكتب قصائد بل رصاصات من مسدس كاتم للصوت تغتال عاشقي الناس.
فلسطينكم تريدونها «كارت بوستال» لنشر صوركم وتصاريحكم بعد تجميلها.
فلسطينكم حفلات زواج ثورية تكاليفها مدفوعة سلفاً من دمائنا على طاولات قمار خاسرة سلفاً تدعى مفاوضات السلام وفي فنادق خمسة نجوم.
أو هل نسيتم أن المسيح الرب ولد في مغارة ولم يستدع أبواه طبيب الهيكل أو الحاكم الروماني لسحب رأسه؟ أو هل نسيتم أن محمداً ولد على حافة الطريق ثم عاش ومات يتيماً ومحروماً إلا من قلوب محبيه؟
أو هل نسيتم أن هناك امرأة جليلة تدعى «الداية» كانت قد نفضتنا ونفضت أمنا على أبينا، ونقشت على أشجار الزيتون المقتلعة من جذورها، أسماءنا وأسماء المولودين الجدد وأسماء الشهداء؟
بئس فلسطين التي تريدون. فلسطينكم هتافات لحياة رئيس، أو زعيم تنظيم أو نائبه، أو شيخ عشيرة.
فلسطينكم تلك أرفضها كما ترفض معدة السكير آخر بلعة من كأس عرق.
أرفض فلسطينكم كما يرفض الإنسان في داخلي بيع ضميره وقلمه وقيثارته، كما باع الإسخريوطي معلمه الجليل. أرفضها كما ترفض روحي المتمردة كاتم الصوت أو كاتم القلم أو كاتم الوتر.
ما هذا الوطن الذي «قواديده»، اشتقاق جديد لكلمة قادته، يتنازلون عن حق العودة ولا يحققون أمنية لاجئة عجوز بالعودة إلى بيتها بعد تحريره لتكنسه، ولتسقي دالية العنب؟
لأي شيء قتلتم أحلامنا؟ لأي هدف قتلتم شبابنا؟ لماذا يذل اللاجئون السمر الجميلون في صبرا أو شاتيلا أو عين الحلوة ونهر البارد... وأخيراً وليس آخراً في غزة؟
آخ يا غزة... يا أمي، يا أم العزّ.
لماذا يا شوارب الزعماء يساراً ويميناً ووسطاً وخلفاً تنكرتم لهم كما تنكّر بطرس لحامل الصليب ثلاثاً قبل صياح الديك؟ فلسطيني ليست فلسطينكم.
أيها القادة الفلسطينيون... لا أعتقد أن هذا الجزء من مقالتي يعنيكم في شيء، فأنا أخاطب به من ما زالت فلسطين كعبته وقدسه ومصدر قيامته، أي إنني أخاطب به الفئات الكادحة، أي البروليتاريا الحقيقية، أي اللاجئين في مخيمات القهر.
لا أعتقد أنكم ستفهمون ما سيرد في هذا الجزء، لكون الأمر لا يعنيكم ما دام الراتب الشهري، وبالدولار الأميركي الساقط حتماً مرة أخرى، يتناسل في جيوبكم.
فلسطيني التي أدعو إليها وأكرر هي حلم كنت قد حملته وأنا صغير وخبأته في حنايا القلب.
فلسطين التي أدعو إليها ليست قطعة أرض لا تعادل مساحتها مزرعة في الولايات المتحدة، والساقطة أيضاً وحتماً، أو مجداً أستجديه.
فلسطين التي أحلم بها هي حكايات جدي لأمي عن عكا «اللي على راسي»، وعن نابليون الذي عجز عن فتحها لأن مفتاحه أصابه الصدأ بتأثير هواء البحر العكاوي الكنعاني العربي الأصيل.
فلسطين التي أحلم بها هي سوالف جدتي لأمي عن شواطئ يافا التي تحن لصياديها الذين يبتلعهم الليل وهدير البحر بحثاً عن قوت أطفالهم، فيبحرون ولا يرجعون.
فلسطين التي أحلم بها ليست حاكورة لوز، ولا نبعة ماء أو بيارة ليمون. إنها حكايات خالتي عن الناصرة وعريسها الناصري. إنها دمعتها على بيت ساحور التي ما زالت ترتدي ثياب العيد وتزين ضفيرتها بشريطة حمراء، وترفض أن تتعزى بالفلسطيني والفدائي الأول المسيح ابن مريم قبل الأخذ بثأره.
أتعرفون أن المسيح الرب كان اسمه الحركي أبو هاني. يا أيها الفلسطينيون الشرفاء، وتحديداً اللاجئين، وعلى رأسهم أمي العجوز أم العز وجاراتها...
أدعوكم إلى الانضمام إلى البيان الرقم واحد وإعلان الثورة.
أدعوكم إلى الانضمام إلى تنظيم جديد اسمه «الحلم لتحرير فلسطين». تعالوا نحلم معاً بوطن فيه الكثير من الصبية والبنات، مواطنين وليسوا لاجئين. يتلهون بين شتلات التبغ وقطوف العنب. يلعبون الغميضة وعروس وعريس. تعالوا نحلم فلربما حررنا فلسطين.
ويا زعماء الفلسطينيين، وتحديداً الأساولة (اشتقاق آخر جديد لأوسلو):
حاكموني على حلمي، أو زيدوا في غيكم، فأنا حتماً عائد إلى فلسطين، بقرار أممي أو غيره، لأزرع حلمي وردة في غزة وجنين وبيسان وأسدود وعسقلان ويافا واللد والرملة والقدس.
سأعود رغماً عنكم وعن أميركا وإسرائيلكم قاتلة المسيح الكنعاني والفلسطيني الأول لأزرع ضمة حبق في عكا «اللي على راسي».
أيها الإله إيل، كم مارسنا فعل الزنا بوصاياك... نحن، نعم نحن، قتلة الأنبياء والرسل.
نحن خطأة الهيكل وباعة الحمام والصيارفة.
أيها الإله إيل، أنت خلقت اللاجئ الأول من روحك القدس ونحن قتلناه، ألا يعني هذا أننا قتلناك؟
أيا إيل، أرنا مجدك وعزك وانتقامك آمين!